الرؤية الصينية للنظام الدولي

04:27 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تبدو بكين، مؤخراً، أكثر اهتماماً بتمتين علاقاتها السياسية مع أوروبا، وهو ما تعكسه الزيارات المكثفة لمسؤولين أوروبيين لها، حيث تحاول الصين، وبهدوئها المعتاد، الاستفادة من التباينات الأمريكية - الأوروبية التي طفت على سطح العلاقات الاستراتيجية بين واشنطن والعديد من العواصم الأوروبية الفاعلة، خصوصاً برلين وباريس، حيث تجد أوروبا نفسها مضطرة للدخول، وللمرة الأولى بعد الحرب العالمية الثانية، في تناقض مصالح تجارية مع واشنطن، وهو ما تعتبره الصين فرصة حقيقية لتقوية علاقاتها السياسية مع أوروبا، وخلق توازنات جديدة في النظام الدولي.
كانت التجربة الصينية، في العقدين الأخيرين، مثار اهتمام بحثي كبير في العالم، وهو ما تعكسه الورشات والأبحاث المتزايدة عن هذه التجربة، بما فيها بعض الورشات المهمة التي استضافتها دبي في الأعوام الأخيرة، في إطار بحثي متعدد، ومجمل الدراسات حول الصين تحاول الكشف عن مميزات التوازنات الاقتصادية والسياسية والعسكرية التي جعلت الصين تنافس بقوة في سوق العمل الدولي، وتحتل المرتبة الثانية في هذا السوق، بثبات كبير، يعكس قدرتها المتزايدة على احتواء الأزمات الداخلية والخارجية على حدّ سواء.
حجر الأساس في التجربة الصينية هو تبنيها لخطط خمسية، متدرجة في المهام، ومتنوعة بين التنمية الداخلية، وبين المنافسة في الاقتصاد العالمي، وتحويل التحديات الديموغرافية لأكبر بلد، من ناحية عدد السكان، إلى فرصة حقيقية، وعوضاً من أن تكون الكتلة السكانية الهائلة عقبة أمام التنمية، تمكنت السياسات الصينية، من جعلها قاطرة للاقتصاد، وإحداث تنمية متكافئة بشكل كبير بين مختلف الأقاليم الصينية، فقد أخذت السياسات التي تبنتها الحكومة الصينية على مدار عقود بالحسبان ضرورة التوازن الاجتماعي الاقتصادي، والمحافظة على مستويات معيشة مقبولة لعموم الشعب الصيني.
وخلال الحرب الباردة، التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، سعت الصين إلى ترك مسافة بينها وبين الاتحاد السوفييتي، ويمكن القول إن تلك المسافة هي الخصوصية الصينية في النظر إلى موقعها في النظام الدولي، فلم تقم بعمليات استقطاب سياسية وإيديولوجية كبرى كما فعلت موسكو، بل إنها، ومنذ عام 1980، بدأت تتلمس الحاجة إلى التنويع في نظامها الشيوعي، وإقامة نظام اقتصادي جديد، يكون فيه للقطاع الخاص دور في نهضة الصين، من دون أن يشكل ذلك التنويع، أو لنقل التحوّل، عبئاً على التنمية الصينية، كما فتح الباب واسعاً أمام استقطاب الشركات الأجنبية الباحثة عن فرص جديدة في الاستثمار.
التوجه نحو القطاع الخاص، بتوازن، عكس القراءة الصينية السياسية للتحولات في النظام الدولي، وتوجهه نحو العولمة، من دون الشعور بالدونية تجاه الديناميات الجديدة للعولمة، بل على العكس من ذلك، فإن الصين، خلال العقود الماضية، حافظت على مميزات عديدة للنظام الاشتراكي في توزيع الثروة، مع تنويع مصادر الاستثمار الخارجية، والانفتاح أكثر على سوق العمل الدولي، كما استوعبت عملية الانتقال الكبيرة التي أحدثها النظام المعولم في التقانة والاتصالات، وتمكنت من إحداث تطوير هائل لبناها الإنتاجية.
وبعد انهيار النظام الدولي ثنائي القطبية، في مطلع تسعينات القرن الماضي، متّنت بكين علاقاتها بواشنطن، واستوعبت الحساسيات الكثيرة التي أفرزها مناخ التنافس الاقتصادي والتكنولوجي بينهما، كما تفهمت مخاوف واشنطن من صعودها، لكنها في الوقت ذاته لم تنخرط، بشكل مباشر، في السياسات الدولية لواشنطن، وأبقت على مسافة بينها وبين السياسات المتفرّدة للولايات المتحدة، كما استعدّت لمحاولات واشنطن لاحتوائها، خصوصاً عبر تطوير القطاعات العسكرية المختلفة، حيث أنفقت الصين موارد مالية كبيرة، من أجل تطوير مكانتها العسكرية، عدا عن كونها قوة نووية.
تتمسك الصين، في مجلس الأمن الدولي، وفي علاقاتها الدبلوماسية، بمبدأ «سيادة الدول»، وهو من أهم المبادئ المؤسسة للأمم المتحدة، وتنطلق من هذا المبدأ في فهم الكثير من الصراعات حول العالم، كما تحافظ من خلال هذا المبدأ على مصالحها في مواجهة سياسات واشنطن التي قامت أكثر من مرّة، بخرق هذا المبدأ، كما في العراق، وترى بكين أن واشنطن، عبر حراكها الدبلوماسي، والإعلامي، لا تحترم خصوصيات الشعوب وأنظمة الحكم، بل إنها تستخدم الثغرات الداخلية من أجل إضعاف منافسيها.
موقف الصين من النظام الدولي الراهن هو موقف متعدد المستويات، فيه الكثير من الحسابات الدقيقة، تجاه مختلف الأطراف، فهي من جهة، لا تزال متمسكة بعدم رفع درجة الحساسية مع واشنطن، كما أنها تدعم روسيا في العديد من القضايا، من منطق ضرورة التوازن في النظام الدولي، لكنها تستثمر في الوقت ذاته في الخلاف الأوروبي- الأمريكي، من أجل تحسين مكانتها في النظام الدولي، مع المحافظة الشديدة على تماسك نظامها السياسي - الاقتصادي، وهي في ظل الاضطراب الدولي الراهن، تحاول أن تكون محور توازن مهم، تتجه إليه أنظار القوى الفاعلة في هذا النظام.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"