الشرط التعاقدي للدولة الحديثة

03:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

يطرح الواقع العربي، في فوضاه الراهنة، وحالة عدم الاستقرار، أسئلة عديدة، وباتجاهات مختلفة، ومن بينها سؤال الدولة، والذي تحوّل إلى سؤال مركزي، أكثر من ذي قبل، في السنوات الأخيرة، مع الزلزال الذي ضرب الدولة الوطنية في عدد من البلدان العربية، وجرّ معظمها إلى حالة معقّدة، تتداخل فيها الصراعات الداخلية مع الصراعات الخارجية، من دون أن تلوح في الأفق أية نهاية لتلك الصراعات، أقلّه في المدى المنظور، وهو ما جعل من إعادة التفكير، وعلى نطاق واسع، في مسألة الدولة، أمراً لا مفر منه، لقراءة الإحداثيات التي تحدّد واقع العرب الراهن، من مجتمعات ودول، ومن أجل الإمساك بزمام المبادرة، لتجاوز هذا الواقع، نحو آفاق جديدة، في إعادة صياغة منظومة الأمن والاستقرار، ومنع تدهور الأوضاع في البلدان العربية التي ما زالت تتمتع بقدر من التماسك الداخلي والخارجي.
الدولة بمفهومها الحديث هي جهاز حيادي، يقوم على التعاقدية، ولا تحتمل أية أيديولوجيا. وحيادية الدولة تكمن في عدم تمييزها بين المواطنين، وعدم انحيازها لفئة ضد أخرى، وبالتالي فإن إدارة الدولة تخضع لإرادة المجتمع، وهو المجتمع الحديث، القائم على تنظيم مصالحه، وفق حالة تعاقدية مدنيّة، تتأسس على القوانين، وليس وفقاً لإرادة سلطة سياسية ما، أو سلطة تنفيذية، وبالتالي فإن الدولة تعكس، وفقاً لهذه الحالة، روح الأمة، بملامحها المحدّدة، والمتفق عليها في أوسع إطار ممكن، وليس وفقاً لقراءة رغائبية لفئة من فئاتها.
لقد خرجت معظم الدول العربية من عباءة النضال ضد الاستعمار، وعرفت في معظمها حكماً عسكرياً أو شبه عسكري، أو حكماً خاضعاً لعقود اجتماعية تقليدية، وما زالت أنظمة الحكم، على الرغم من التحوّلات الكبيرة في النظام الدولي، أو التحوّلات التي أحدثتها العولمة، من دون أي تغيير يذكر، في بنى الحكم، كما تمّ إخضاع الأشكال المؤسساتية الحديثة للسلطات التنفيذية، خصوصاً أن معظم الدول العربية لم تعرف فصلاً بين السلطات الثلاث، التشريعية، والقضائية، والتنفيذية، أو عرفت حالات من الفصل الشكلي، تحت وطأة استمرار نخب حاكمة بعينها، على مدار عقود من الزمن.
البرلمان (مجلس الشعب)، أو القضاء المدني، أو السلطة التنفيذية بصيغتها المدنية الحديثة، كلّها تعبيرات عن البنية التعاقدية للدولة الحديثة، وفي مستوى آخر، فإن الأحزاب والنقابات والجمعيات والاتحادات المهنية، هي أيضاً تعبيرات حديثة عن الحالة التعاقدية للمجتمع والدولة في آن واحد، وإذا ما رصدنا الحال التي آلت إليه تلك الأشكال التعاقدية الحديثة في معظم الدول العربية، فسنجد أنها قد سلبت المعنى التعاقدي الحقيقي، ولا تمتلك تأثيراً حقيقياً في عملية تطوير الدولة والمجتمع.
إن الدولة، بصيغتها التعاقدية الحديثة، ترى الأفراد بدلالة المواطنة، المكفولة دستورياً، والمحافظ عليها تنفيذياً، وبالتالي فإنها لا تقيم أي وزن لمفهوم الأكثرية والأقلية بمعناه الديني أو المذهبي أو المناطقي أو الإثني، وبالتالي فإن مفهوم الأكثرية والأقلية، أصبح مفهوماً سياسياً، كما أن وصول أكثرية سياسية ما إلى الحكم لا يعني بأي شكل من الأشكال تغييب مصالح الأقلية السياسية.
لم تضع الدول الوطنية العربية، في حساباتها، أهمية تطوير النظام التعاقدي للدولة، في مستوياتها العديدة، بل على العكس تماماً، أسهمت النخب الحاكمة في تخريب الصيغ التعاقدية، بشكلٍ مباشر أو غير مباشر، فعندما تستطيع السلطات التنفيذية ورموزها تجاوز القوانين، والقفز من فوقها، لخدمة مصالحها، فهي تضرب في العمق، الصيغ التعاقدية الموجودة في مستوى قانوني ما، ما يجعل المجتمع لا يثق فعلياً بالتعبيرات القانونية، ولا يتفاعل معها. فعلى سبيل المثال لا الحصر، توجد في معظم الدول العربية نقابات واتحادات تخصّ العمال والفلاحين، لكن ثقة هاتين الفئتين بنقاباتهما تكاد تكون معدومة، نظراً إلى الحال التي وصلت إليها أوضاع الأفراد المنتمين إلى شريحتي العمال والفلاحين، واللتين تعانيان إفقاراً وتهميشاً على المستويات كافة.
وعوضاً من أن يكون مسار الدولة الوطنية في العالم العربي مساراً تقدّمياً، يتجاوز فيه الصيغ التعاقدية التقليدية، أو التي تشكّلت ما بعد الاستقلال عن الأجنبي، راحت الدولة العربية تستثمر في كل التناقضات المجتمعية، من أجل إرساء نظام صارم للهيمنة، وهو ما فاقم الأزمات واحدة تلو الأخرى، وأوصل الكثير من الدول العربية نحو حالة من انسداد الأفق الوطني والتاريخي، وولّد انفجارات كبيرة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"