الفرد ومستقبل العالم العربي

04:26 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

هل يمكن التمييز بين الحياة الحقّة الأصيلة وبين الحياة المبتذلة؟، هذا السؤال الذي نال حيّزاً مهمّاً من العمل الفكري والمفاهيمي لأحد أهم فلاسفة الوجود والحرية، مارتن هايدجر (1889-1976)، فقد رأى هايدجر أن الالتباس يحدث حين تغيب القدرة على التمييز بين نمطين من الحياة، الأول ينطلق من حريّة الإنسان الداخلية، بينما يقوم النمط الثاني على غياب الحرية، ووفق هايدجر فإن الحرية هي توأم القلق، القلق من عدم تحقّق الذات، أو غياب معناها.
البحث عن الحرية الفردية والتنظير لها، هو سياق فلسفي أوروبي بامتياز، سيأخذ حيّزاً كبيراً في فلسفة القرن العشرين، إلى جوار قضايا فكرية وسياسية كبرى، وهو السياق ذاته الذي سيقود إلى تأكيد حقوق الإنسان الفردية، أي الاعتراف باستقلالية الإنسان/ الفرد، خارج إطار الجماعة، والمصالح الجماعية للفئات الاجتماعية.
طرح الفرد بوصفه قيمة مستقلّة مرّ بمراحل عديدة، منذ بداية عصر النهضة في القرن السادس عشر، لكن ذلك الطرح تأسس، وبشكل مبدئي، على نظرية نيكولاس كوبرنيكوس التي تقول بدوران الأرض حول الشمس، والتي أحدثت ثورة في علمي الفلك والفيزياء، لكن أهميتها الرمزية الكبرى تمثّلت في تحدّي ما كان سائداً منذ عصر الفلاسفة اليونان، وبالتالي فتحت نظرية كوبرنيكوس الباب أمام الشكّ بالمعرفة السائدة آنذاك، وتالياً وضعت القيم المتوارثة على محكّ الفكر النقدي، القائم على الشكّ وإعمال العقل، بدلاً من النقل والاتّباع.
الجدل الفلسفي حول قيمة الفرد الذي ساد بقوة منذ أوائل القرن العشرين، لم يجد صداه في العالم العربي على نطاق واسع، بل ارتبطت قيمة الفرد على الدوام بما هو أوسع منها: المجتمع، الأخلاق، الوطن، التحرّر من الاستعمار، وغيرها من القيم العامّة، التي فرضت نفسها في لحظة تاريخية مفصلية تمثلت، في بدايات القرن الماضي، بتفكّك الخلافة العثمانية، وبدء عصر الانتدابات الأجنبية.
البحث الجماعي عن الهويّة وتعريف الذات الجماعية ما زال حاضراً بقوة في العالم العربي، فالسؤال عن ماهية الذات الجمعية لم يجد إجابته الواقعية، فقد فشلت المشاريع الكبرى بشكل كارثي، فعلى الرغم من الاستقلال الذي حقّقته الدول العربية عن الانتدابات، إلا أن المجتمعات والدول العربية لم تجد تعبيرات حديثة مطابقة لوجودها، فما سمّي بالدولة الوطنية لم يكن في حقيقته سوى امتداد لدولة الغلبة الموروثة عن السلطنة العثمانية، أي «دولة شوكة وقهر وعصبية»، بحسب تعبير ابن خلدون، حيث أعيد ضبط المجتمع عبر المؤسسة العسكرية، وليس من خلال المؤسسات المدنية الحديثة، والتي أفرغت من مضمونها.
فكرة الحقّ، ومنها حقوق الفرد، على العموم، بقيت في السياق السوسيولوجي العربي المعاصر، وفي مثاله السياسي، تابعة للمورث الثقافي التاريخي، حيث إن الحقوق يمنحها الحاكم، وليست نتاج توافق وضعي بين الناس، يمثّله العقد الاجتماعي، ولذلك فإن معظم الدساتير العربية، وعلى الرغم من اشتمالها على مواد دستورية تقرّ بحقوق الفرد، إلاّ أن واقع الممارسات السياسية، وواقع القوانين، على تناقض تام مع الدساتير، وكذلك، فإن الثقافة المجتمعية، مدعومة بمؤسسات تراثية، تقلّص حدود تلك الحقوق، وهو ما يمكّن تَلمّسه، من دون عناء، في التناقض بين حقوق المرأة المنصوص عليها في الدساتير العربية، وبين واقع القوانين التنفيذية.
لقد طرح الفيلسوف الوجودي الفرنسي، جان بول سارتر (1905-1980)، أولوية الوجود على الماهيّة، وبالتالي فإن تأطير الفرد في ماهيّات مسبقة هو اعتداء سافر على حريّته، وهذا الاعتداء يقلّ أو ينقص تبعاً للشرط التاريخي، فكيف الحال إذن في أوضاعنا العربية، حيث إن تحديد ماهية الفرد، في بعض الأنظمة السياسية، يتمّ من خلال الانتماءات الدينية والمذهبية والمجتمعية السابقة لوجود الفرد نفسه.
بالطبع، إن صيرورة تطوّر منظومة الحقوق التي تؤكّد الفرد، وتعدّه عمادها، مرتبطة بعدد من الإنجازات الكبرى، من بينها حدوث تحوّل في طبيعة الدولة نفسها، بحيث لا تعود الدولة دولة العصبيات، كما وصفها ابن خلدون، بل دولة حديثة، مؤسسة على عقد اجتماعي طوعي، أساسه، والفيصل فيه، المواطنة المتساوية للأفراد.
هل ما زال ممكناً المضي نحو المستقبل، وتأمين شروط المشاركة الفعّالة في الإنتاج الحضاري، من دون بناء دولة يكون احترام حقوق الأفراد الأساسية جوهرها الفعلي؟.
إن واقع الإسهام الحضاري العربي اليوم مدعاة للأسف، فما زالت قوى دولة الغلبة القديمة تعاند التاريخ، بل هي مصرّة في غير مكان على تدمير كل شيء، ابتداءً من الفرد وصولاً للدولة نفسها، مروراً بتدمير كلّ مقوّمات العيش، حتى لو كلّف ذلك حروباً طويلة، وهو ما يحدث منذ سنوات.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"