تبدُّلات في مفـاهيم السياسة وقِيَمها

03:57 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

استبيحت السيادات القانونية بالتشريعات الدولية الملزِمة؛ تماماً كما استبيحت السيادات السياسية والقرار الوطني المستقل، بالقرارات الدولية الملزِمة وسياسات الابتزاز.
منذ نهاية الحرب العالمية الثانية، يشهد معمارُ السياسة والدولة ونظامُها على تبدُّلاتٍ هائلة غيرت الكثير من معالمها المألوفة التي استقرت عليها، طويلاً، في الأزمنة الحديثة، وخاصة منذ ميلاد نموذج الدولة الوطنية. طالت التبدُّلات تلك أسسَ السياسة وقواعدَها ومنظومَة القيم التي ظلت منْشَدَّة، إليها، طوال تلك الحقبة، وكانت لها بمنزلة الإطار المرجعي الأخلاقي الذي تمتح منه مبادئها المؤسِّسة.
ولقد أفصحت تلك التبدلات عن نفسها، على قدرٍ من الوضوح كبيرٍ، في مفاهيم السياسة نفسِها بما فيها مفهوم الدولة ذاته. وحين تكون تَبَدّيات (تمظهُرات) التبدُّل هي المفاهيم، فالأمر يعني أنّ التغييرَ لم يُصِب القشورَ من السياسةِ والسطوح، وإنما أصاب هندسَتَها الإجمالية التي ابتنتها حقبةٌ من الفكر والإنتاج الفكري (فلسفة السياسة، علم الاجتماع) - تقع بين منتصف القرن السابع عشر ومطالع القرن العشرين - وحقبةٌ من البناء السياسيّ لعمران الدولة الوطنية تُوازي، زمنياً، فترة التأليف السياسي والسوسيولوجي وتعبّر عنها، مادياً، في أشكالٍ من التطبيق مختلفة. يمكن التمثيل للتبدُّلات تلك بالمتغيّرات التي طرأت على مفاهيمَ سياسيّة رئيسية - في نظام الدولة الوطنية - مثل الحرية، والقوة، والمواطنَة، والقانون، والسيادة، علما بأنها متداخلة في تكوين هيئة نظامِ الدولة على الرغم مما بينها من فروقٍ وتمايُزات في المعاني والدلالات.
وإذْ تكفّلتِ الدولة بتمتيع الأفراد أولاء بحقوقهم وحريّاتهم، لم تفرض عليهم من القيود إلا ما فرضتْه القوانين بما هي ضابطُ العلاقة بين حدّي الاجتماع السياسي: الحق والواجب، ومعيار التلازُم والتناسُب بينهما. ولقد تعرَّضت هذه الهندسة السياسية للشرخ حين بُولغَ في بناء التقابُل بين الفرد والمجتمع، الحرية والدولة، لمصلحة الفرد والحرية. وكان ذلك إيذاناً بتأسيس المداميك الأساسية للفكرة الفردانية، وانطلاق موجاتها التي بلغت ذراها في حقبة العولمة.
هكذا بدتِ الفردانية - بما هي تحلُّل من كل ضابطٍ أو رابطٍ اجتماعي وسياسي - عقيدةً سياسية جديدة تَرِثُ فكرةَ الفرد والحرية وتبدِّدُها في الوقت عينِه! ونظرتِ الدولةُ الحديثة إلى القوّة بما هي وسيلة قانونية لتحقيق أهدافها: صوْن السِّلم المدنية، حماية الحريات والحقوق، الحفاظ على مرجعية القوانين وسلطانها، الدفاع عن السيادة في وجه مخاطر استباحتها من الخارج... إلخ. لذلك ظلّتِ القوة مقترنة بالقانون. وكان هذا في أساس مقولة ماكس ڤيبر عن العنف المشروع: العنف الذي تحتكره الدولة لمنع العنف بين الناس. غير أن القوة (العنف)، ما لبثت أن تحوّلت من وسيلة حمائية إلى شريعة سياسية ما إن بدأت نماذجُ من السلطة ونظام الحكم تقوم عليها. وتلك كانت حال الأنظمة النازية والفاشية والستالينية والديكتاتورية العسكرية والتسلّطية والاستبدادية... التي تنزّل العنف منها منزلة المبدأ المؤسِّس! وهكذا، أيضاً، كانت حال العنف الخارجي: الاستعماري، والتوسّعي، والصهيوني الذي قام بديلاً من أحكام السّلم في القانون الدولي!
أنتَجتِ الدولةُ الحديثة الفردَ، ثم حوّلته إلى مواطن؛ إذِ المواطَنة - في نظامها - هي التجسيدُ المادي للانتماء والولاء، وهي التصريف السياسي لمنظومة الحقوق والواجبات التي ترتّبها القوانين والتشريعات، وإلى ذلك فالمواطَنة نظامٌ لحماية المشمولين بها من كل اعتساف قد يتولّد من سوء استخدام السلطة. إن حق المرء في حياته وخصوصياته، في رأيه ومشاركته في الشؤون العامة؛ حقه في العمل والتعليم والصحة والمساواة القانونية هو مما تكفلُه له مواطنيّتُه في الدولة الحديثة. غير أن ذلك اختلف اليوم؛ انتقلنا - فجأة - من حقوق المواطن إلى حقوق الإنسان. الإنسان أعلى شأناً وشأواً من المواطن، وحقوقُه فوق القوانين وعابرةٌ للأوطان، وهي لا تُحَدّ في حقوق المواطن ولا تؤطِّرها قوانينُ وطنية، بل إن كل انتهاك لها يسوِّغ التدخُّل الخارجي من أجل «حماية» حقوقه المنتهكة.
وتغيّرتِ الحالُ، اليوم، عما كانتْهُ قبلاً؛ لم تعُد للقوانين الوطنية المفعولية - والنفاذية الحصرية التي كانت لها على حيِّزها الوطني وعلى مواطنيها؛ بات «القانون الدولي» أكثر فاعلية، وسلطانُه على القوانين الوطنية أرجحَ وأنفذَ.
أما السيادات الوطنية، التي أبصرتِ النور قانونياً منذ «معاهدة ويستفاليا»، والتي عُدَّت الأساس في شرعنة الدولة الوطنية واستقلال كيانها وتشريعاتها وحُرمة رعاياها، فقد طوح بها التبديل وأطاحَها، فلم يعُد لها من كيان مستقل أو حُرمة. وما حصل ذلك عن طريق الغزو العسكري، فحسب، بل أيضاً، وأساساً، عن طريق تعطيل فاعليَّتها بقوانينَ من خارجها مفروضة هي قوانين «المجتمع الدولي». هكذا استبيحتِ السياداتُ الاقتصادية، مثلاً، بالتجارة الحرة غير الخاضعة للأحكام الحمائية وبالإملاءات السافرة للمؤسسات المالية والنقدية العالمية؛ واستبيحتِ السياداتُ الثقافية والقيَمية بالغزو الإعلامي والإلكتروني؛ واستبيحتِ السيادات القانونية بالتشريعات الدولية الملزِمة؛ تماماً كما استُبيحتِ السيادات السياسية والقرار الوطني المستقل، بالقرارات الدولية الملزِمة وسياسات الابتزاز والضغط وقوانين من قبيل «حق التدخل»! ما الذي بقيَ، إذاً، من نموذج الدولة الوطنية والهندسة السياسية التي عليها كان مبناهُ؟

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"