عصر «لعبة الأمم» بامتياز

04:08 صباحا
قراءة دقيقتين
إلياس سحّاب
عندما كنت أمارس دراستي للعلوم السياسية، في نهاية عقد الخمسينات، أي قبيل امتهاني العمل الصحفي، بدأت أتلقى الصدمات الموجهة إلى «براءتي» السياسية، عبر دراسة نصوص اتفاقية سايكس بيكو، ونص وعد بلفور. لكن هذه الصدمات اكتملت وتبلورت عندما وقع بين يدي كتاب «لعبة الأمم»، لعميل المخابرات المركزية الأمريكية مايلز كوبلاند، حيث كان لذلك تأثير واضح في مطالعاتي بعد ذلك لتاريخ القرون الغابرة، وتاريخ القرون المعاصرة، فبدا لي بوضوح كيف كانت الدول الكبرى، في كل حقب التاريخ تمارس نفوذها على الدول الصغرى وشعوبها بخفة ولاأخلاقية، ضاربة بذلك عرض الحائط بما تجره هذه الممارسة من ويلات وحروب ودمار على حاضر ومستقبل شعوب الدول الصغرى.
وقد تعمق هذا الشعور في نفسي عندما كنت أعايش نتائج اغتصاب فلسطين وإقامة دولة «إسرائيل» قسراً على أرضها، تنفيذاً «للعبه الأمم» البريطانية المسماة وعد بلفور، هجرة من يافا، حيث ولدت، ومتابعة لأحداث القضية المتتالية، حتى يومنا هذا.
وعندما جلست لأكتب بحثاً عن الخلاصة السياسية للقرن العشرين في السياسة العربية، مع نهاية القرن العشرين المنصرم، أدركت بعمق أن مجريات تاريخ المنطقة العربية خلال هذا القرن، باستثناء عقدي الخمسينات والستينات، مع جمال عبد الناصر، كانت من نتائج لعبة الأمم التي مارستها وما زالت تمارسها في منطقتنا القوى السياسية الكبرى: دول الاستعمار القديم أولاً بريطانيا وفرنسا، ثم دولة الاستعمار الأمريكي الجديد منذ نهاية الحرب العالمية الثانية في منتصف القرن.
والحقيقة الصادمة أكثر من ذلك، تقول لنا إن السنوات الستة عشرة الأولى من القرن الجديد الحادي والعشرين، كانت تدفع صناعة التاريخ في المنطقة العربية، خاصة بعد التراجع العربي الكبير في توقيع مصر لاتفاقية كامب ديفيد أولاً، وتوقيع المقاومة الفلسطينية على اتفاقية أوسلو بعد ذلك، إلى مستنقع «لعبة الأمم»، التي تمارسها الولايات المتحدة الأمريكية بالمنطقة العربية كلها، منذ غزو العراق في العام 2003، واستمراراً بالعدوان «الإسرائيلي» على لبنان في العام 2006 تحت عنوان واضح وصريح ومعلن: «صناعة الشرق الأوسط الجديد».
بعد ذلك، تواصلت لعبة الأمم جلية مكشوفة في أزمات كل من سوريا والعراق وليبيا، مهددة أكثر من دولة عربية، من الدول الأساسية في العالم القديم، بالتمزق والتفكك، إضافة إلى مئات آلاف القتلى والنازحين.
إنها مسيرة مأساوية أشبه بالقضاء والقدر الذي انقضى على المنطقة العربية منذ انهيار الإمبراطورية العثمانية في مطلع القرن العشرين (الحرب العالمية الأولى)، ودخول العرب، بعد خروجهم من أربعة قرون للسلطنة العثمانية، إلى مجال «لعبة أمم» القوى الغربية الكبرى، في هذه المنطقة من العالم.
وإذا كانت «لعبة الأمم» ممارسة قديمة في السياسة الدولية، منذ قديم الزمن، وكلما وجدت قوى دولية كبرى، تطمح إلى التوسع في سائر بقاع الأرض، فإن لعبة الأمم في العصور الحديثة قد وصلت حداً مأساوياً غير مسبوق، بسبب التقدم العلمي الهائل من صناعة أسلحة الدمار الشامل، وبسبب التقدم الهائل في وسائل التنقل (جواً وبحراً وبراً) ووسائل الاتصالات الإلكترونية. لقد انقلب هذا التقدم العلمي الهائل، مع لعبة الأمم، من نعمة على البشرية، إلى تدهور أخلاقي لا حدود لبشاعته. إننا للأسف الشديد نعايش عصراً متقدماً من بشاعة ولاأخلاقية لعبة الأمم في السياسة الدولية.
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"