في تلازم العنف والتعصّب

03:01 صباحا
قراءة 4 دقائق
عبد الإله بلقزيز

غالباً ما اقترن التعصب بالعنف في التاريخ فأتى مفصوحاً عنه في فعل ما، من أفعال القوة المادية. قد يكون فعل العنف رمزياً، لكن ذلك يتماهى مع معنى التعصب كلية؛ إذ إن مجرد التعصب لفكرة هو في حد ذاته عنف رمزي لاقترانه بالطعن في غيرها المخالف طعناً إنكارياً (عنيفاً إذن). ليس أمام عقل متعصب مساحة من احتمال، أو مساحة قد يملؤها رأي آخر محتمل؛ إذ الاحتمال نقض للحقيقة واليقين، وهما ما لا يشك المتعصب لرأيه في حيازتهما، وإلا ما كان متعصباً، أو ما جاز لنا وصفه بالمتعصب.
لكن عنف المتعصب الرمزي يصبح أشد أذى وخطورة، حين يفصح عن نفسه في شكل مادي، حيث يتحول إلى عدوان وإفناء، وحيث لا يملك من يأتيه أن ينتزع لنفسه وجوداً وبقاء إلا عن طريق محو غيره المخالف، محواً مادياً ماحقاً.
بين العنف والحقيقة إذن علاقة من التلازم مكينة؛ علاقة نلحظها في تاريخ المجتمعات والثقافات والأديان، ويتكرر التعبير عنها في صور شتى ومختلفة. ومبنى العلاقة تلك، على أن الواحد من الحدين يبرر الثاني ويتبرر به: الحقيقة من جهة تبرر العنف أو تدفع من يمارسه إلى تسويغ الإقدام عليه، بوصفه على حق، أو مالكاً للحقيقة. والعنف من جهة أخرى يكرس الحقيقة تلك، ليس بما هي حقيقة من بين حقائق أخرى ممكنة؛ بل من حيث هي وحدها الحقيقة. وهكذا تستصحب الحقيقة العنف وتتوسله، ويستصحب العنف الحقيقة ويسخرها لشرعنة نفسه. وليس ثمة من عنف لا يكون مبناه على حيازة الحقيقة؛ لأن فقدانه إياها يجرده من المشروعية، ويعرفه بما هو مجرد عدوان، كما ليس لحقيقة أن تفرض نفسها بما هي الحقيقة الوحيدة التي على الجميع اعتناقها، إلا إن حملت هي على فعل عنف يفرضها على الناس كافة أو أقل على أولئك الذين يخاطَبون بها من حملتها، ويقع عليهم فعل العنف.
وما أكثر الحقائق في التاريخ التي فرضت نفسها بشرعية القوة لا بقوة الشرعية (الإقناع)، فكان لها لذلك الأسنان والأظافر التي حلت منها محل أفكار ومبادئ لم تملك لنفسها قدرة إقناعية كافية، لكي تفشو في الناس وتسود.
يصبح الاقتران «الماهوي» بين العنف والحقيقة أشد متانة كلما اتصلت الحقيقة بالدين، فكانت حقيقة دينية، أو نُظر إليها من حامليها بوصفها كذلك (أي حقيقة دينية). يُضفى على الحقيقة تلك في هذه الحال، مقدار من القداسة يمنعها من أن تنتهك بشك أو سؤال أو جدال. لا يعي من يحرس هذه الحقيقة أنه يدافع عن فهم معين (فهمه هو) للدين؛ إذ يتماهى عنده النص والتأويل: النص الديني وفهمه هو لذلك النص، من حيث هما شيء واحد، فتكون النتيجة أن رأياً مخالفاً لرأيه في الشأن الديني، يرتفع إلى مقام الشرك والمروق، فيسوغ الرد عليه بالتبعة بكل الإمكانات المتاحة، وأولها العنف الذي يتبرر هنا بالدفاع عن المقدس.
من يقرأ تاريخ الثقافات الدينية يقف على هذه الحقيقة؛ حقيقة انتظام كل أتباع الدين الواحد في مذاهب منفصلة عن بعضها بعضاً، ومغلقة على بعضها بعضاً، ومتباعدة ومتنابذة، يشنع بعضها على بعض فيقدح في سلامة إيمانه، أو يبدّعه أو أحياناً يكفّره ويُخرجه من الملة! بينما يظل الواحد من هذه المذاهب والفرق يرى نفسه الوحيد الأخلص للدين، الأشد التزاماً بأحكامه، وفهماً لتعاليمه. وما من دين من الأديان خلا تاريخه من مفعول هذه الظاهرة الانقسامية التي ولدت فيه جميع أنواع الشقاق والفرقة والعنف والصدام.
ليس من دين تقع عليه مسؤولية حمل أتباعه على العنف لأن العنف ظاهرة بشرية سابقة حتى للأديان ولا يجوز البحث عنه في تعاليم أي منها.
لعل الأدعى إلى التفكير هو نوع الفهوم والتمثلات التي يكوّنها المؤمنون من هذا الدين وذاك لتعاليم دينهم، والتي تحملهم على الاعتقاد بأن فهمهم للدين مطابق حكماً لحقائقه، وبالتالي تحملهم على الادعاء بأنهم الأمناء الوحيدون على ذلك الدين (والأصح على تأويلهم له)، وتبرر لهم بأن يتنزلوا منه منزلة سدنته الذين يذبون عنه، ويتوسلون لذلك الوسائل كافة، بما فيها العنف المادي.
وما أغنانا عن القول إن هذا الضرب من تمثل الدين، من منطلق المطابقة الكاملة بينه وفهم من يتمثله، إنما هو مسلك يقصد به احتكار تأويله، وتحصيل الحق في تقديم التفسير الرسمي له. ومع علمنا أنه وجد في تاريخ الثقافات الدينية التوحيدية على الأقل من أمسك عن السير في هذا السبيل، وقدم فهمه للنصوص المقدسة بما هو فهم ورأي لا سلطان له على المؤمنين وليس فيه وجه إلزام، إلا أن الكثرة الكاثرة من علماء الدين ومذاهبهم من الأديان كافة كانوا من طينة أدعياء الحق في تمثيل الدين القويم، ونازعوا بعضهم على ذلك التمثيل.
وإذا كانوا في قسم كبير منهم قد اكتفوا بالتعبير باللسان عن فكرة «تمثيل الدين القويم»، ولم يتعدوا ذلك إلى التحريض أو الفعل المؤذي لمخالفيهم، فإن الأفكار تلك التي دبّجوها في مقالاتهم وجدت حوامل لها من نوع خاص ضمن أتباعهم، فما لبث أن صار ما كان يقال باللسان يجري إنفاذه بالسنان. هكذا هو العنف في التاريخ دائماً: بفكرة يبدأ!

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"