مجتمعات ما قبل المجتمع المدني

04:05 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

في قراءة الواقع المتردي لحال الدولة الوطنية العربية اليوم، يبدو ملحّاً إعادة النظر في حال المجتمعات العربية نفسها؛ إذ لا يكفي التوصيف السياسي العام، والذي قد يفضي إلى قراءة تبريرية، من شأنها أن تكون مضللة، فلا يمكن الفصل بين الدولة والمجتمع، انطلاقاً من كون الدولة تعبيراً مكثفاً عن المجتمع، على الرغم من الاستقلالية النسبية للمجتمع عن الدولة، خصوصاً لجهة تحديد وممارسة المصالح الفردية؛ لكن تلك الاستقلالية للمجتمع، من حيث درجة الخصوصية، أو مستوى الحرية، مرتبطة بمستوى تطور بنى الدولة، ومستوى حداثتها، وبالتالي انتقالها من دولة الغلبة، إلى دولة المواطنة.
إن تحليل واقع المجتمعات العربية يصطدم بعائق فكري كبير، وهو عائق تعريف المجتمع نفسه، فقد ارتبط المجتمع عند الفلاسفة المعاصرين بالمجتمع المدني؛ نظراً لتطور العلوم الاجتماعية نفسها في خضم الليبرالية الأوروبية، فالمجتمع والدولة خضعا لتأثيرات سوق العمل الحر، ولم يعد ممكناً، من وجهة نظر معظم المفكرين، الفصل بين تطور الاقتصاد الحر وتطور المجتمع؛ حيث أفضت حركة السوق إلى بناء مجتمع مدني، تعبّر عنه قوى سياسية، ونقابية، واجتماعية، مهمتها الدفاع عن مصالح الأفراد، في منظومة قيمية، أصبحت تعطي الفرد مكانة مركزية، في الحريات، والعمل، والثقافة، وقبل كل شيء في الدساتير، وما ينبثق عنها من قوانين.
إذاً، نحن ملزمون في قراءتنا للمجتمع العربي برؤية السياق المختلف لحركة هذا المجتمع؛ حيث بقيت معظم المجتمعات العربية خارج إطار الاقتصاد الحر، وتبنّت معظم الدول الوطنية، بعد الاستقلال عن الاحتلالات الأجنبية، في منتصف القرن الماضي، اقتصادات موجهة، تتحدد قوانينها عبر السلطات السياسية الحاكمة، ورؤاها الأيديولوجية، ومصالح النخب الحاكمة، وقد بقيت، تبعاً لهذا السياق/ النمط، حركة تحديث المجتمع رهناً بالنظام السياسي، ونخبه الحاكمة، مع بون شاسع بين الشعارات المطروحة والممارسات العملية، فعلى الرغم من تبني عدد من الأنظمة السياسية، ذات التوجهات القومية والاشتراكية، شعارات تحديث المجتمع، إلا أن تلك الشعارات بقيت جزءاً من أدوات الهيمنة والإخضاع، ولم تتحول إلى واقع فعلي، يمتلك دينامياته الخاصة.
يتفق الفيلسوفان، الألماني كارل ماركس (1818-1883)، والإيطالي أنطونيو غرامشي (1891-1937) على اعتبار المجتمع المدني هو مسرح التاريخ، ويختلفان في تحديد وجوده، فماركس يرى وجود المجتمع المدني في بنيته التحتية، بينما يراها غرامشي في بنيته الفوقية؛ حيث تتمتع النخب السياسية بدور كبير في تحديد ماهية المجتمع المدني، وما يهمنا، في تحليل واقع المجتمعات العربية، هو أن بناها التحتية لم تشهد حالة من الاستقلالية، ولم يترك لحركة الاقتصاد الحر أن تقود حركة التقدم، وأن تفرز بالتالي قوى اجتماعية، بدلالة مصالحها الاقتصادية، وأن تقوم بتطوير البنى الاجتماعية، وخلق قيم حداثية، أو بلورة القيم بدلالات حديثة، كما أن النخب السياسية، بسبب ضيق مصالحها، وتأخرها التاريخي، قامت بإعاقة تطور المجتمع، وإقصاء طاقاته الحيّة عن دائرة الفعل، واحتكار الفضاء العام.
لقد تحوّلت الدولة الوطنية من فرصة لتنظيم الطاقات الحية للمجتمعات العربية إلى حجر عثرة أمام تطورها، ما جعل الحراك الاجتماعي في حالة استنقاع؛ بل في حالة نكوص في كثير من الأحيان، فالبنى الاجتماعية بقيت معزولة عن بعضها، ولم تطوّر قراءات حداثية لمصالحها، ولم تتمكن من بناء المجتمع المدني؛ حيث تصبح الكيانات المدنية فاعلة في الدفاع عن مصالح أفرادها، وتطوير آليات تنظيمها.
أظهرت السنوات السابقة، بما لا يقبل الشك، مستوى تأخر البنى المجتمعية في عالمنا العربي، فالدول التي شهدت انتفاضات شعبية، سرعان ما تحوّل معظمها إلى حروب داخلية وخارجية، برزت فيها مستويات كارثية من الارتداد نحو الانتماءات الضيقة، والتي لا تعبّر عن مصالح المجتمع بدلالاته الجمعية، كما أظهرت هشاشة المجتمع المدني العربي، وضعف قياداته، وعدم قدرتها على قيادة الحراك الشعبي، ومنعه من الانزلاق نحو صيغ التحارب المتباينة.
ثمة مسألتان حاكمتان لتطور المجتمع من صيغه المتأخرة إلى صيغه الحداثية/ المدنية، هما تطور تعبيرات البنى التحتية، وهو ما يستلزم اقتصادات حرّة بدرجة عالية، وتطور تعبيرات المجتمع المدني، لتكون قادرة على خلق انتماءات جديدة، والدفاع عن مصالح الأفراد، وهاتان المسألتان وثيقتا الصلة بالدولة ونظامها السياسي، وهو ما يستلزم إعادة تعريف الدولة الوطنية العربية نفسها، ومستوى صلاحيتها للقيام بتغييرات جذرية، تسمح فعلياً بانتقال المجتمع من صيغه المتأخرة إلى صيغه الجمعية، التي تسمح بخلق قيم جديدة، تتمركز حول المواطنة بشكل أساسي، بوصفها معياراً أساسياً في قياس مستوى تطور المجتمعات الحديثة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"