من لعبة الأقدار إلى إرادة الإنقاذ

04:08 صباحا
قراءة 4 دقائق

تسلم الرئيس اليمني الجديد عبدربه منصور هادي في ظروف لم تتسنّ لرؤساء اليمن السابقين . فهو رئيس توافقي جاء محمولاً على إرادة الثورة وصناديق الاقتراع وتزكية البرلمان معاً، وهو ما لم يُتح لأغلبية زعماء العالم . أمضى نحو 16 عاماً نائباً للرئيس بصلاحيات فعلية ضئيلة (ذلك أن الرئيس السابق كان يقرر كل شيء وينجزه بنفسه!) ولا يترك بقية لنائبه الجنوبي الذي تسلّم منصب نائب الرئيس ثمرة للوحدة اليمنية التي عُمّدت والأصح خُضّبت بالدم . ومع ذلك كان الرجل بعيداً عن الدم في الشطر الجنوبي حين احترب الإخوة ( الرفاق) الأعداء في ثمانينات القرن الماضي، واكتفى بمناصب عسكرية رفيعة لم ترقَ إلى منصب وزير .

الأنظار تتطلع إلى هذا الرجل (66 عاماً)، لمعاينة ما إذا كان سيتمكن من إبراء جراح اليمنيين . والأقدار التي خدمته بالصعود إلى رأس الجمهورية، ما زالت تخدمه بعد أن تسنم الموقع الأعلى في البلاد . فهو يحظى بثقة إقليمية ودولية واسعة، تسنده سمعته التي راكمها على مدى عقود بوصفه مسؤولاً يضع نفسه خارج وفوق الصراعات السياسية والحزبية، مع تغليب الاعتبارات المهنية والوطنية على أي اعتبار آخر . عارفوه في بلاده يصفونه بأنه يتمتع بقبول عام، وإن كان القبول لا يعني الشعبية بالضرورة . وقد تحدى صحفي يمني سائله من مواطنيه قائلاً: أتحدى أن تحبه أو تكرهه، فهو لم يقتل أحداً ولم ينقذ أحداً .

مع ذلك فهذه مجرد انطباعات، والفيصل أن يكون هناك محك يجري اختبار الرجل عليه . ففي ظل الأزمة الثورية'' التي عصفت بالبلاد خلال العام 2011 ، وحين لاحت تباشير الحل عبر المبادرة الخليجية بترشيح نائب الرئيس رئيساً توافقياً لفترة انتقالية تمتد لسنتين، فإنه لم يُبدِ تهافتاً على المنصب ولا أبدى زهداً زائداً، إذ إن أي موقف خلاف ذلك كان من شأنه تعقيد الموقف مع علي عبدالله صالح، ومع بقية القوى السياسية بما فيها الحزب الذي كان حاكماً، والذي كان يتولى فيه ما يضاهي المنصب الرسمي نفسه، وهو منصب نائب رئيس حزب المؤتمر الشعبي، علاوة على قوى المعارضة الحزبية ممثلة باللقاء المشترك . ويستذكر معلقون أنه حين بدأ ينضج خيار المرحلة الانتقالية وانتقال الرئاسة إلى نائب الرئيس، ومع بدء عملية تشكيل الحكومة الوفاقية برئاسة محمد سالم باسندوة، فقد سعى علي عبداله صالح إلى إسناد منصب وزير الدفاع إلى أحد المقربين منه بدلاً من الوزير محمد ناصر أحمد الذي كان يتولى المنصب ذاته في الحكومة السابقة، والذي سماه عبدربه هادي لحكومة الوفاق، وما كان من الأخير الا أن أصر على مرشحه، وذلك في أول اختبار لإثبات صلابته، وبعدئذ القصة معروفة فقد تشكلت الحكومة مناصفة بين المعارضة وحزب المؤتمر الشعبي وبرئاسة شخصية معارضة( باسندوة)، وبدأت عملية انتقال السلطة بمغادرة صالح إلى الولايات المتحدة، ثم عودته عقب إعلان نتائج الانتخابات مباشرة، ولاعتبارات يمكن وصفها بلياقات العبور السلس إلى المرحلة الجديدة، فقد وافق عبدربه هادي على عملية تسلم وتسليم من علي عبدالله صالح، ولم يكن الرئيس الجديد قبلها بيوم واحد قد استقبل صالح في المطار، وهذا عبر صالة مطار صنعاء من دون أية مراسيم . لقد تعاقب الظل والضوء على الرجلين . الرجل الذي احتكر الأضواء انسحب إلى منطقة الظل بعد 33 عاماً من الحكم، والرجل الذي مكث طويلاً في الظل سعت الأضواء إليه وها هي تغمره .

بعيداً عن لعبة الأقدار، فالرئيس الجديد رغم ما يتمتع به من مظلة أمان خارجية، أمامه تحديات جسيمة تتمحور أولاً في إعادة اللحمة إلى الجيش وتنظيم هيكيليته بأقل قدر من الهزات، مع الأخذ في الحسبان الاعتبارات القبلية، وبعض نفوذ مازال يتمتع به صالح في الحرس الجمهوري وقطاعات أخرى . أما التحدي الجسيم الثاني والذي يرتبط بسابقه، فيتمثل بمعالجة خطر تنظيم القاعدة التي تنشط جنوباً والتي تشكل تحدياً أمنياً ثقيلاً، ويتجاور مع ذلك تحدِ سياسي كبير يتمثل في مخاطبة تطلبات الجنوبيين وبالذات قوى الحراك الجنوبي، التي تحفظت على انتخابات الرئاسة، ومازالت تطالب بعودة دولة اليمن الجنوبي .

الرئيس الجديد مؤهل للتعامل مع هذه التحديات فهو ابن المؤسسة العسكرية في الجنوب، وقد اقترب لاحقاً من مؤسسات الدولة في الشمال بما فيها المؤسسة العسكرية . أجواء الارتياح الوطني والرغبة العامة في إعادة بناء ما هدمته المواجهات، ووجود حكومة وفاقية، سوف يمكن الرئيس من اعادة بناء الجيش، وبدعم خارجي أيضاً، ثم مواجهة خطر القاعدة في الجنوب التي لا تمتلك غطاء شعبياً .غير أن الأمر الأخير يتطلب توافقاً سياسيا مع قوى الحراك الجنوبي، وهي قوى يعرفها الرئيس الجديد جيداً بحكم منبته الجنوبي، وتبوّئه مناصب عسكرية في دولة الجنوب السابقة، وإن كانت بعض قيادات هذا الحراك تنتمي إلى جيل أصغر منه سناً .

ليس معلوماً الوجهة التي سوف يختارها، لكنه سيجد نفسه محكوماً بالحاجة إلى ارساء السلم الأهلي وتلبية تطلبات محلية أساسية للشطر الجنوبي في الوقت ذاته، من أجل إبعاد كأس الانفصال أو الاستقلال . وعلى الأغلب أنه بعون من حكومة باسندوة (الجنوبي المنبت أيضاً) سوف ينجح بالتوصل إلى صيغة قد تكون ذات طابع لامركزي تمنح الجنوبيين فرصة إدارة شؤونهم، وترفع عنهم ما يعدّونه ظلماً كبيراً لحق بهم في عهد الوحدة، التي يرون أنها بدأت طوعية، ولم تلبث أن تحولت إلى قسرية وإلى عملية إلحاق وضم إلى الشمال .

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"