وينك يا بويه؟

كلمات
04:59 صباحا
قراءة دقيقتين

بيني وبين جهاز الحاسوب مسافة سنتيمترات، وأصابعي تطرق على أزراره بخفة، ولو أسلمت أصابعي لثقل روحي مما سمعت لعلقت الأزرار داخل الحاسوب إن لم تكسر قاعدته. لم أستطع أن أكتب أو أنقل لكم ما سمعت.

أعود إلى يدي وأصابعي التي تلعب على قاعدة الحاسوب، ما بداخلي شيء أكبر من كل اللغات، ولا تسعفني فيها المفردات ولا أجد له اسماً أو صفة أو فعلاً حتى أستخرج منه مفاعيله. هو باختصار، حسب المسمى المتعارف عليه، اكتئاب، لكنه في حقيقته مزيج من القهر، القرف والحسرة. لا، لا، لا، ليس كذلك، شعوري الحقيقي هو الخيبة أو تقصير. لا،لا،لا، ليس كذلك بل هو شعور بالذنب والإثم والجرم.

جلست أمامها، فتاة إماراتية تقول عدت بالأمس من لبنان بلد الكرامة والشجاعة والرجولة والشهامة، في الطريق في الحافلة يترنم فيها صوت عاصي وهو يغني لو هالدنيا سألت مينك قال انك لبناني.. بطل السلم وبطل الحرب همزة وصل الشرق الغرب.. تضل تحب وتنحب بيكفي انك لبناني. يحق لكل لبناني أن يفخر بأنه لبناني لأنه يحضن من يحضن في عمق أرضه وداره وقلبه، ويتحمل ما يتحمل لأجلهم .

ما زلت أستمع إليها، أخفت وجهها وراء كفيها وهي تجهش بالبكاء. قالت: عدت من لبنان بعد ما أمضيت خمسة أيام، لم أزر بيروت ولا برمانا ولا بحمدون ولا عاليه ولا الروشة كباقي الإماراتيين والخليجيين. لم أر بحرها اللازوردي، ولا بياض ثلجها. لم أتسكع على المقاهي، ولم أذهب للتسوق. كنت في لبنان، في بقعة من الكرة الأرضية ليس لها أرض، اسمها المخيمات الفلسطينية، مررت على مخيم شاتيلا.

بكت وبكت وبكت ثم قالت: من أحاسب على وجه هذه الأرض. أبي وأمي؟ مدرستي ومناهجها التافهة؟ دولتي التي خيرها على العالم كله؟ من أحاسب ومن أسائل ومن أقاضي، بعد ما وقفت في هذا المخيم لتسألني فتاة لم تتجاوز الخامسة عشرة، هل سمعت عن مذبحة صابرا وشاتيلا كي تأتي وتساعدينا؟ ألجمت لأنني لا أعرف ما هي مذبحة شاتيلا، أنا ابنة العشرين، أسير في شوارع المخيمات، حيث بيوت الزينكو، كنت متطوعة لخمسة أيام في العيادات التي لا صلة لها بالعيادات إلا اللافتة المعلقة على مدخلها. نساء عربيات حرائر وأطفال صغار وفتيات جميلات كبياض الثلج يتساقطون من أمراض بسيطة وأمراض خطيرة، لأن العيادات لا تمتلك الدواء ولا الأجهزة الطبية ولا الأطباء، ونحن هنا أسر تلقي بالطعام والشراب والدواء في القمامات.

الله يا دار زايد لا يوجد واحد فيكم يخبرني ما هي مذبحة صبرا وشاتيلا، ويخبرني عن المخيمات الفلسطينية. لم يعلمني أحد منكم ما هو النزوح وما هو الشتات، وينك يا بويه.. وينك يا بويه.. لو شفت اللي شفته.

ولا أزيدكم.. ترى هل وصلتكم رسالتها؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"