عادي

"الخليج".. فجر الصحافة الإماراتية

01:51 صباحا
قراءة 4 دقائق
محمد

محمد عبد الله القرقاوي


حين أتصفَّحُ جريدة الخليج كل صباح، ضمن علاقة يومية وثيقة تأسّست بيني وبين الصحيفة على مدى عقود، فإنني أحرصُ على أن أقرأ العنوانَ اللافت: «الخليج»؛ المكتوب بحروفٍ كبيرة، عتيدة، كأنها لبناتٌ ضخمة في بُنيان راسخ، أو أوتادٌ مغروسةٌ في الأرض، في تصميمٍ ثلاثيّ الأبعاد يشي بالعُمق والامتداد، كما أقرأُ تعريفَها الثابت: «يومية سياسية مستقلة أسّسها سنة 1970 تريم عمران وعبد الله عمران»؛ فأذكِّر نفسي دوماً بأنَّ التاريخ ليس ذاك الذي نأخذه كأمر مسلَّم به أو كشيء من الماضي، وإنما الذي نصنعه ونعيشه ونستعيدُه كلَّ يوم. وكلُّ يوم، تصنع «الخليج» تاريخَها لا كمؤسّسة إعلامية رائدة فقط، وإنما كمشروعٍ حضاري وثقافي وتنويري، يحتلُّ مكانةً بارزةً في السرديّة الإماراتية الحديثة.

هذا العام، تطفئ جريدة الخليج شمعتها الخمسين في مسيرتها الصحفية الطويلة والمتميزة، كمشروع إعلامي وطني، تقاطعت محطاتُه مع أهم وأجمل وأرقى مشروع: مشروع قيام دولة الإمارات العربية المتحدة، حيث كانت «الخليج» أحد أهم المنابر الإعلامية في المنطقة التي ساهمت بصورة فعّالة في ممارسة جُهدٍ توعوي جبّار حشدت من خلاله الرأي العام الإماراتي والعربي خلف مشروع الدولة الوليدة، وشاهدةً منحازةً لمشروع الوطن القادم، واقفةً عضداً وسنداً للآباء المؤسسين، حاملةً أصواتهم، ناقلةً رؤاهم، موصلةً رسالتهم التي اجتمعت على فكرة الوحدة بأي ثمن؛ موثِّقةً الحراكَ على الأرض، راصدةً مزاجَ الشارع الإماراتي، وذلك في وقت كانت فيه قوى إقليمية ودولية حريصةً على بقاء الوضع الراهن كما هو عليه، ساعيةً إلى وأد حلم الدولة في مخاضه.

إن الأجملَ من بلوغ الهدف هو الرحلةُ إليه، وحتماً فإنّ الرحلة التي خاضتها «الخليج» كي توصل كلمتها لآلاف القراء، في الإمارات والعالم العربي، تشكل تجربةً تُدرَّس في تاريخ الصحافة العربية؛ فالصحيفة أسّسها شقيقان إماراتيان مثقفان، خليجيّا الفؤاد، عربيّا الهوى، هما تريم وعبد الله عمران، وكانت أول صحيفة يومية تصدر في الإمارات. ولم يكن اختيار «الخليج» اسماً للصحيفة الجديدة من قبيل الصدفة، ف«من أجل الخليج، كانت الخليج»، كما أرادها تريم عمران في معرض تقديمه للصحيفة؛ ف«الخليج»، عبر رؤيتها التي انطلقت منها، تؤكد على التاريخ والروابط والآمال المشتركة لشعوب دول الخليج العربي؛ فأصلُنا واحد، وامتدادنا واحد، وجذورنا في هذه الأرض متعانقة، ولا غنى لأحدنا عن الآخر. وضمن البيت الخليجي الكبير، ترحب «الخليج» بالصوت العربي والقلم العربي من كل مكان، كصحيفة تتبنى قضايا الأمّة العربية وهمومها.

لقد وضعت «الخليج» بصمتها في المشهد الإعلامي الخليجي والعربي من خلال اعتماد نهج صحفي ملتزم، يقوم على نقل الواقع دون زيف، ودعم مسيرة التنمية في الإمارات سياسياً واقتصادياً وثقافياً وإنسانياً، ورصد نبض الشارع الإماراتي إزاء العديد من القضايا الحيوية التي تمسُّ مستقبلَ بلده، وتوجيهه بما يسهم في تمتين أسس العقد الاجتماعي بين المواطن وقيادته، وخلق مناخ معزِّز للاستقرار والمنعة والحصانة المجتمعية.

وبما أن الدول والمجتمعات ليست طارئةً أو وليدةَ الصدفة، فقد لعبت «الخليج» دوراً حيوياً في التعريف بالإمارات كدولةٍ ذات حضارة وتاريخ. وعلى صفحاتها، اكتشفنا بلادنا الجميلة، بصحرائها وبحرها ومدنها وقراها، واستعدنا معها إرثنا من خلال مقالات وتحقيقات صحفية متميزة، بحيث يشكل أرشيفها ثروةً معلوماتية.

قد يكون من الصعب أن نختصرَ منجزَ «الخليج» التي ارتقت باسمها وبمضمونها. لكن يكفي أنْ نعرف أنَّ الصحيفة التي أتمَّت عامها الخمسين تُعدّ رائدة الصحافة العربية الإلكترونية أيضاً؛ فهي أول صحيفة عربية تؤسس لها موقعاً على شبكة الإنترنت، وذلك في الأول من سبتمبر عام 1995، لتلحق بها صحيفة النهار اللبنانية، ثم «الشرق الأوسط» السعودية في وقت لاحق من ذاك العام. ويُحسب ل«الخليج» كذلك أنها من أوائل الصحف التي دشّنت الصحافة التخصصية في المنطقة، من خلال ملاحقها الأسبوعية، وأشهرها بلا شك الملحق الثقافي الذي صدر في سبعينات القرن الماضي، والذي شكل تجربةً فريدةً من نوعها في الصحافة العربية، مستقطباً على صفحاته نُخبةً من أهم الكتاب والأدباء العرب، كما شهد سطوعَ أسماء أدبية إماراتية في الشعر والقصة والرواية والمسرح والفن، ما وضع الإمارات على خريطة الحضور الثقافي والإبداعي خليجياً وعربياً.

واليوم، تواصل «الخليج» أداء رسالتها الإعلامية وممارسة دورها الوطني في نقل الوجه الحضاري والثقافي للإمارات. وفي هذه الذكرى الغالية، لا يغيب عن بالي من أعتبره أخي الأكبر، مربي الأجيال، الدكتور عبد الله عمران، الذي شكل مع شقيقه تريم دعامتين من أرقى وأمتن دعامات هذا الوطن الجميل.

لقد كان الدكتور عبد الله عمران رجل دولة، ذا رؤية قامت على أهمية «المؤسسة» كثقافة حيوية في المجتمع، وكمنظومة فكر وعمل، بحيث تكون الدولة ذاتها مفهوماً مؤسسيّاً راسخاً ومتجذراً. وأفتخرُ بأنني أحد أبناء الإمارات ممّن تسنى لهم أن ينهلوا من فكره وعلمه وخبرته الكثير. وأعتبر نفسي محظوظاً بأنني كنتُ قريباً منه، وأعتزُّ بعلاقتي الشخصية والمهنية معه، هو الذي كان يستقبلني مرحباً، سخياً في وقته معي، وفي مشاركتي خلاصة تجربته ومنحي مشورته. وكان ذهنه المتيقِّظ حاضراً دوماً في كل المسائل والقضايا الحيوية.

قد تكون شهادتي بالصديق والأخ والموجِّه عبد الله عمران مجروحة، ولكن لا يمكن إلا أن أستذكر فلسفته التي تعلّمتُ منها أنّ العمل الحكومي لا يمنح صاحبه الأمان الوظيفي بقدر ما يمنحه الحافز للتغيير والتطوير، وأنّ مفهوم الوطنية لا يعني أن نفكِّرَ بالحقوق قبل الواجبات، وأنّ الصحافة ليست وظيفةً أو مهنةً أو مدخلاً للنجومية أو الشهرة وإنما رسالة، وفي المنعطفات التاريخية والمحطات المفصلية في حياة الدول والمجتمعات تصبح مهمة وطنية.

رحم الله تريم وعبد الله عمران، صانعي أحد أبهى فصول قصة الوطن، قصة نفخر بها، مع إشراقة شمس كل يوم، حين تطالعنا «الخليج» بصفحاتها وعناوينها وأخبارها ومقالاتها وتغطياتها، ضمن فضاء تعبيري فسيح أساسه المهنية والمصداقية والإعلاء من قيمة الكلمة.

وزير شؤون مجلس الوزراء
 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"