درس الخيال

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

لا يتحدث أحدهم في الساحة العربية عن الخيال، ويعتبره كثيرون مفردة تنتمي إلى الشعر، وربما يذهب البعض إلى استخدام اشتقاقات لغوية ومفاهيمية تمنح الكلمة  معاني سلبية عدة مثل: خيالي وخيالية، وإذا توقفنا برهة عند تداول الكلمة في سياقاتها اللغوية المختلفة سنلاحظ أن البعض لكي يهرب من تلك المعاني يضيف إلى الخيال كلمة «الخلّاق» أو يستخدم مصطلح «المخيال». 

لقد باتت مفردة «خيال» تحيل إلى كل ما يناقض الحقيقة أو الأساليب المنهجية والعلمية أو النزعة الواقعية في الكتابة والتحليل.

  إن قراءة سريعة لأي منجز علمي أو حضاري في مختلف المفاصل، تؤكد أنه اعتمد في البداية على الخيال، ومن يعود إلى عدة عقود قليلة ماضية، ليقرأ الأخبار التي كانت تنشرها الصحف عن مستقبل التكنولوجيا التي نستمتع بها الآن، سيدرك أن تلك الأخبار مثلت في وقتها خيالاً منفلتاً من عقاله، ومن يتابع أفلام الخيال العلمي الآن بإمكانه أن يتلمس ماذا سيكون شكل العالم في الغد. هذه الصورة لا تقتصر على العلوم وحسب، ولكن يستخدم علماء السياسة والاجتماع والاقتصاد الآن مصطلح الخيال، لتجاوز عقبات الراهن، وللإشارة إلى بناء فكري متكامل وابتكاري يتضمن تصورات وحلولاً لمشاكل غير مطروحة، فالخيال ببساطة تجاوز لكل ما هو تقليدي أو يطرأ على الذهن للوهلة الأولى، ولا يتعلق كذلك بالقضايا الحيوية والمسائل العلمية الشائكة، هو يرتبط أيضاً بأفكار بسيطة ولكنها مؤثرة، أو اختراعات صغيرة تخدم قطاعات واسعة من البشر.

   وربما تكون ثقافتنا هي الوحيدة التي لا تزال تنظر بخفة إلى الخيال، ويعود ذلك إلى عوامل تاريخية عدة، فقبل مرحلة الاستقلال وحتى منتصف القرن الماضي كانت عين المفكر النهضوي، تتطلع إلى تمثل التجربة الغربية الناهضة علمياً وعسكرياً، ما دفع هذا المفكر إلى الدعوة بالأخذ بمناهج صارمة لا مجال للخيال بينها. ولا ننسى أن الدوائر الغربية نفسها لم تكن تستخدم مفهوم الخيال بمدلولاته الواسعة مثل الآن، وبعد الاستقلال تأثر الفكر العربي وبقوة، بنزعة واقعية، نتيجة لانتعاش التيارات اليسارية آنذاك وتأثيرها في كافة مفاصل الثقافة. وفي العقود الأخيرة بينما كان العديد من البلدان تترجم «خيالها» إلى واقع، كان مفكرونا لا يزالون أسرى المرحلتين السابقتين أو توقفوا عن الكتابة والإنتاج.

  لقد وصل الفكر العربي ومنذ ما يقرب من عقدين إلى طريق مسدود، نتيجة لتكرار القضايا وإعادة تدويرها، ولا مخرج إلا بتفعيل الخيال، أما من يهتمون بأمر العلوم فلا يجب أن يتوقفوا أمام مقولات محبطة من قبيل: نحن لا ننتج العلوم، وبالتالي يستحيل أن نتحلى بملكة الخيال العلمي، وحتى في الآداب والفنون هناك ضرورة للخيال، حتى يتم تجاوز الرداءة المهيمنة على هذين المجالين بفعل تغول مواقع التواصل التي فرضت ذائقتها على الجميع.

  لقد تقدّم العرب في الماضي، وبالمناسبة عرفوا، في أرجاء العالم المتخلف آنذاك بأنهم أمة الخيال، فهل نتعلم الدرس؟.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"