عادي

فنون «السايبورج»

23:02 مساء
قراءة 6 دقائق

القاهرة: مدحت صفوت
في بيان «السايبورج» الشهير، أعلنت وصراحة، الأستاذة الأمريكية في قسم تاريخ الوعي ودراسات المرأة في جامعة كاليفورنيا، دونا هاراوي أن «الكتابة، والطاقة، والتكنولوجيا شركاء»، حتى باتت هذه المفاهيم جزءاً من الثقافة السائدة، لتنتج تصوراً جديداً عن الإنسان، الذي لم يعد مفهومه كما كان في الكتابات الفلسفية طوال القرن العشرين.
وباستخدامنا لعبارات كلاشيهية، فإن الانعطافة الألفية مثلت نقطة تحول بالمعنى الحرفي، من خلال التداخل حدّ الاندماج بين التطورات التكنولوجية الهائلة والقدرات البشرية، ومع الوقت يتسرب هذا الاندماج إلى الثقافة بوصفها وعياً، وإلى الفنون والآداب باعتبارها انعكاسات ونتاجاً مباشراً للثقافة، ويبدأ التاريخ الإنساني التدشين لتصورات جديدة تُعرف بما بعد الإنسانية Post Humanism، بعد أن ظللنا قروناً لا نرى في التكنولوجيا سوى استعمال الآلات الحديثة والمتطورة.
الأمر لم يعد يقتصر على استعمال الآلات، فالدمج بين التكنولوجيا والإنسان لم يعد ضرباً من الخيال العلمي، لكننا نعيش بعض مظاهره حالياً، الأمر الذي دفع دونا هاراوي إلى التوقف أمام إنسان الألفية الثالثة، وإصدار بيانها الشهير غربياً وعربياً، وإن ندر تناوله عند العرب، «إعلان السايبورج Cyborg العلوم، والتكنولوجيا، والاشتراكية النسوية في أواخر القرن العشرين» في عام 1985، وهو المصطلح – نقصد السايبورج- الذي صكاه مانفريد كلاينز وناثان كلين في ستينات القرن العشرين للإشارة إلى الإنسان المحسن أو المطور الذي يمكنه العيش في بيئة أبعد من حدود الأرض.
وحسب هاراوي فإن الكلمة هي الحروف الأولى من كلمتين، cybernetic وorganism، واستعملتها للإشارة إلى كائن سايبرنيتيكي، معرفي، هجين من الآلة والكائن الحي، مخلوق من الواقع الاجتماعي ومن الخيال أيضاً. وهو في جوهره قضية تخييل وخبرة معاشة، صراع مع الموت والحياة، هو بعبارة واضحة، إنسان تدخلت التكنولوجيا في وظائفه البيولوجية والإنسانية، وبالطبع يختلف عن الروبوت، فالأخير آلة متطورة للغاية، غالباً ما تكون آلية وتتطلب القليل جداً من التفاعل مع البشر، أما الأول فينبض بالحياة، إنه مزيج من كائن حي وآلة.
شبح السايبورج ومع التطور الهائل المشار إليه سابقاً، والتكريس لعصر ما بعد الإنسان وما رافقها من تصورات عابرة للجندر أبرزها الكوير Queer، الأشخاص ذوي هويات جندرية وجنسية غير نمطية، تصبح استعمال مفردة الأطياف Specters نوعاً من العبث وضرباً من الخرافة، لكننا وبشيء من التأمل فإننا سنكتشف أننا في عالم من الأطياف.
الأمر ببساطة، يتلخص في طبيعة التكنولوجيا نفسها، حتى وإن اقتصر الأمر في كثير من الأحيان على استعمالها، فإننا بتنا نعيش مع الأطياف، تُحيط بنا من كل جانب، التكنولوجيا نفسها أطياف، الدردشة تنتقل عبر الضوء، وفي وسائط صنعت من الألياف، التقنية الرئيسية فيها الضوء، الطيف، بالتالي حديثنا عن الأشباح أو الأطياف ليس ببعيد عمّا نعيشه اليوم، الكل شبحي، والجميع مهما تعددت صورته المادية يبقى طيفياً في صورة من الصور.
نافذة جديدة
ومن خلال هذه الطيفية، استحالت علاقة الفنون والتكنولوجيا من استعمال الأولى للأخرى للانتشار إلى تغلل الأخيرة في متن الأولى، حتى باتت التكنولوجيا جزءاً من نسيج الأعمال الفنية والمادة الرئيسية المكونة لها، انتقلت من خانة الميديا والوساطة إلى منطقة التشكيل والتكوين، ليصبح العمل الفني الحديث تشاركياً وتفاعلياً، وقائماً على الوسائط المتعددة، لتفتح البرمجيات نافذة جديدة للمصممين والفنانين. إنها متغيرة للغاية وتتفاعل مع كل شيء من حولها، الهواء، والرطوبة، ودرجة الحرارة، والطبيعة، والإنسان، أو بتعبير «ليو تشانج» «حاسوبي هو شريكي في العمل».
التشكيلية تشانج، وحسب موقع «Shin » تستخدم في عملها «رائحة المحادثة»، البيانات والخوارزميات لإنشاء روائح مختلفة من الكيمياء التي جرى التقاطها بين الأشخاص خلال محادثاتهم من خلال تحليل عواطفهم. وفي عمل آخر بعنوان «العيادة الاجتماعية» تربط بين الفن التشكيلي والوصفات الطبية من خلال الروابط التفاعلية والتطبيقات الذكية التي تقدم عدداً من النصائح كأن يتحدث المتلقي إلى أحبائه، وأن يقول مثلاً «مرحباً.. أنقذني من هاتفي».
ويذكر الموقع المشار إليه، في تقرير عن «الروابط الإنسانية في التكنولوجيا الفائقة»، أن تشانج تعتقد أن الفن باستخدام البيانات والخوارزميات يمنح الناس إمكانيات غير محدودة، ويعمل على تنشيط مستوى أعلى من التفكير بشأن الذات والعالم، خاصة في الأوقات الصعبة مثل جائحة كوفيد-19.
 مسرح افتراضي
في المسرح، زادت التكنولوجيا من قدرات «أبي الفنون» بطرق لا حصر لها. من تصميم المجموعة إلى الأداء نفسه، و تلعب التكنولوجيا الآن دوراً في معظم الإنتاج المسرحي، بدءاً من مساعدة صوت الممثل في الوصول إلى الجميع، حتى صياغة الخلفيات والسينوغرافيا المذهلة، ويرجع الأمر إلى ثمانينات القرن العشرين منذ أن صكّ جيرون لانير مصطلح «الواقع الافتراضي Virtual Reality»، واقتحمت تقنيات VR سلسلة من العروض التجريبية.
عندما تتعلم المزيد عن التكنولوجيا في تاريخ المسرح، من المفيد أن تعرف كيف كان شكل المسرح قبل التكنولوجيا، والتأثير التكنولوجي الذي أحدثته على الإنتاج المسرحي وبعض المجالات الأكثر صلة بالنمو التكنولوجي في ما يتعلق بالمرحلة.

 الرواية الغائبة
هل توجد لدينا رواية تفاعلية عربية؟ السؤال الذي نعتقد أن السياقات تدفعنا إليه دفعاً بمجرد الحديث عن تأثير التكنولوجيا الفائقة على الأدب، خاصة السرد، وما عرف مؤخراً ب«الرواية التفاعلية». وحسبما يرى الناقد المغربي سعيد يقطين فإن المشهد العربي البعيد جداً عما بات يُعرف بالإنسانيات الرقمية، لا يقدم أي رواية تفاعلية يمكن اعتمادها كمرجعية على وجود هذا النمط الأدبي، عدا روايات محمد سناجلة، بشقيها التفاعلي والواقعي الرقمي.
في حين تحكي الناقدة الفلسطينية أماني أبو رحمة، في دراستها «فنون الألفية الثالثة» عن الفنانة والمتخصصة الرقمية الروسية أوليا ليالينا ونصها التشعبي «عاد صديقي من الحرب»، مع الانتباه هنا إلى عدم استعمال لفظ «نص»، بقدر عمل فني سردي قصصي، تستخدم فيه ليالينا العناصر الأساسية للغة ترميز النص الفائق (HTML) لنقل قصة سينمائية مثيرة. يحكي العمل قصة امرأة شابة تلتقي بصديقها بعد عودته من صراع بعيد. باستخدام إطارات المستعرض، والنص التشعبي، والصور المتحركة والثابتة، ويسلط العمل الضوء على أوجه التشابه والاختلاف بين السينما والويب كوسائط فنية وجماعية، ويستكشف اللغة الناشئة آنذاك للشبكة.
ومع أن مصطلح النص التشعبي Hypertext، قد صيغ في منتصف الستينات من القرن العشرين على يد تيد نيلسون، فإنه ظل بعيداً عن دائرة الانتشار حتى اكتسحت عوالم التكنولوجيا مناحى الحياة، وبات يشير إلى النص الذي لا يقتصر على أن يكون نصاً، ويمكن أن يشمل الرسومات ومقاطع الفيديو والصوت، والإحالات المرجعية، وليس الأمر مجرد الانتقال من الكتابة الورقية إلى الكتابة على الكيبورد.
ويبدو أن العناية العربية النقدية بالنصّ الرقمي، الرواية التفاعلية تحديداً، تفوق كثيراً الإنتاج الإبداعي الرقمي، ففي الوقت الذي يصعب العثور فيه على رواية تفاعلية، حد التعريفات السابقة، فإننا نجد أثراً نقدياً كبيراً يتناول النص الرقمي، منذ كتاب نبيل «العرب وعصر المعلومات»، مروراً بمؤلفات حسام الخطيب «آفاق الإبداع ومرجعيته فى عصر المعلوماتية»، و«الأدب والتكنولوجيا وجسر النص المتفرع»، وسعيد يقطين «من النص إلى النص المترابط» وصولاً إلى كتابات سعيد الوكيل وفاطمة البريكي وزهور كرام وأحمد فضل شبلول والسيد نجم وعبير سلامة وحسن سليمان وأماني أبو رحمة وهاني الصلوي.
**اصنع لوحتك 
قد لا يتأتى تعاطي فنون التكنولوجيا الفائقة على نحو واضح، متعمدين أن نقول تعاطي وليس فهماً، فالفنون عامة وبالأخص مع عصر التطور الفائق تمنح متعاطيها مجالاً تفاعلياً، لا يقوم على الفهم المباشر بقدر الاعتماد على إعادة الإنتاج، إلى الدرجة التي تصل حد صناعة المتلقي العمل بنفسه.
من هذا المنطلق يمنح تطبيق Google Arts & Culture مستخدميه إمكانية التقاط صورة سيلفي وربطها بلوحة، واكتشاف التشابه بين ملامح المستخدم والشخوص في اللوحات الكلاسيكية، مع إمكانية الدمج والسماح بمشاركة المنتج الجديد على منصات التواصل، كمثال عملي على إشراك المتلقين في العملية الفنية.
والتطبيق عبارة عن منصة عبر الإنترنت لصور ومقاطع فيديو عالية الدقة للأعمال الفنية والتحف الثقافية من المنظمات الثقافية الشريكة من أنحاء العالم جميعها، ويستخدم تقنية الصور عالية الدقة التي تمكن المشاهد من القيام بجولة في مجموعات ومعارض المنظمات الشريكة واستكشاف المعلومات المادية والسياقية للأعمال الفنية. وتتضمن المنصة إمكانات بحث متقدمة وأدوات تعليمية.
أسئلة ملحة
مع الاستفادة العظيمة للمسرح من التكنولوجيا الحديثة، فثمة أسئلة كبيرة تلوح في الأفق، غالباً ما تكون شاقة وتهدد بزعزعة جوهر الشكل الفني: كيف يعيش حدث مسرحي على وسائط تكنولوجية؟ وما أفضل طريقة لإشراك المجتمع عبر الإنترنت فنياً؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"