عادي
ترصد جزءاً من التاريخ الروسي

«إيفان الرهيب»..أيقونة تدين العنف

16:51 مساء
قراءة 4 دقائق
3

الشارقة: علاء الدين محمود
كثير من اللوحات الفنية العالمية تحتشد بقيم السلام والخير، وهي بمثابة رفض للشر وأسبابه، وكذلك هي محاكمة للظلم والفساد، فمثل تلك الأعمال تحمل العديد من التصورات والرؤى والأفكار بمدلولات اجتماعية وثقافية وسياسية، وهي في ذات الوقت توثق لأحداث ومشاهد تبقى حية ترصد البشرية في تطورها الحضاري.
لوحة «إيفان الرهيب وابنه»، تحمل عدداً من الأسماء الأخرى للفنان الروسي إيليا ريبين، «1844 ـ 1930»، والذي يعد أحد أشهر رسامي التيار الواقعي الروسي في القرن التاسع عشر، وعرف بقوة الملاحظة والقدرة على تجسيد ملامح الناس وعواطفهم، وتمكن في لوحاته من الإحاطة بحياة الشعب الروسي بكل عمق ورهافة حس، وبالإضافة إلى الرسم أتقن النحت والغرافيك والكتابة والتدريس، وبفضل انتمائه للتيار الواقعي تمكن ريبين من تجسيد الحياة الروسية بشكل عام وبالتفاصيل وذلك في شتى أنواع الرسم وبخاصة فن البورتريه.
تلقى ريبين دروسه الأولى في الرسم، ثم انتقل إلى سان بطرسبورغ ليلتحق بأكاديمية الفنون للدراسة عند أفضل الرسامين حينذاك، وخلال سفره إلى فرنسا وإيطاليا تعرف إلى الفن الأوروبي الغربي لإتقان الرسم في الهواء الطلق، وبعد عودته إلى روسيا تناول موضوع تنوع حياة الشعب الروسي، وتفاعل ريبين مع أحداث عصره بحيوية، وفي الثمانينات من القرن الـ19 اهتم كثيراً بموضوع الحركة الثورية.
*رموز ودلالات
رسم ريبين «إيفان الرهيب وابنه» بين الأعوام 1883 و1885، وهي تعد من النوادر الفنية والتحف القيمة، فهي من أشهر أعمال الفنان، وتكمن قيمتها، إلى جانب روعتها وجمالها، في كونها تحتشد بالرموز والدلالات، والتي قد لا تحتاج إلى مقدرة كبيرة في التذوق الفني من أجل تفسيرها، كما أن اللوحة نفسها أصبحت رمزاً لرفض العنف والشمولية وسفك الدماء، فهي تقف شاهدة على واحدة من المراحل التاريخية التي شهدت فيها روسيا تفشياً للقهر والظلم، بالتالي فإن اللوحة هي بمثابة موقف رفض من قبل الفنان لما كان سائداً في تلك الحقبة.
العمل يصور مشهد حادثة اغتيال القيصر إيفان الرهيب لابنه تساريفيتش إيفانوفيتش، الذي كان مرشحا لولاية العهد، بعد مشادة كلامية بينهما، حيث تناول آلة معدنية حادّة وضرب بها ابنه على رأسه، الأمر الذي تسبّب في موته عن غير قصد، وكان إيفان قد توج قيصرا لروسيا منذ عام 1547، وهو في السادسة عشرة من عمره، وحتى لحظة وفاته في عام 1584، وفي بدايات حكمه تبنّى ايفان نهجاً إصلاحياً وتحديثياً وأسّس جيشاً قوياً، لكنه لم يلبث أن انشغل بالحروب التي دامت لأكثر من عشرين عاما، ما أدّى إلى إضعاف البلاد وتدمير اقتصادها، فصار شيئا فشيئا يميل نحو الاستبداد، وأنشأ البوليس السري، ووضع على رأسه مجموعة من السفّاحين والمجرمين، وقاموا ببطش الناس لا يفرقون بين المذنب والبريء.
*ندم
اللوحة التي رسمت بألوان زيتية على قماش،، تركز على تصوير حزن ولوعة إيفان الرهيب والذي يظهر ممسكاً بابنه، وهو يحاول إنقاذه، لكن من دون جدوى، وقد رسم ريبين تلك الحادثة بشكل دقيق ومعبّر، مبرزاً علامات الرعب المرتسمة على وجه العجوز والتي تُظهر إحساسه بالصدمة والندم جرّاء ما ارتكبه من جرم، وقد قعت هذه الحادثة في السنوات الأخيرة من حياة ايفان الرهيب والذي لم يعش بعدها أكثر من أربع سنوات، في ذلك الوقت كان قد أصبح عجوزا ضعيفا ومريضا وكانت إصلاحاته قد فشلت، وتحت تأثير أعراض مرض البارانويا، كان يرى نفسه محاطا بالمتآمرين والخونة.
*مشهد تمثيلي
عمل الرسام على محاكاة الحادثة، عبر استعادة مشهد القتل، وقد استخدم في ذلك الأمر صديقه وزميله الفنان غريغوري مياسويدوف، الرسام المعروف، كنموذج يحاكي إيفان الرهيب بينما استخدم الكاتب والقاص فسيفولود غارشين ليقوم بدور إيفان الابن، وقام ريبين باختيار مكان يشابه لذلك الذي وقعت فيه الحادثة موظفا ألوانا طبيعية داكنة في الخلفية، وكلّها عناصر تعبيرية أضافت إلى المشهد الدرامي المزيد من العمق والواقعية، والملاحظ أن هناك نوعاً من التصرف في اللوحة في عملية محاكاة الواقعة الحقيقية، حيث أن المشاهد لا يرى إيفان السادي والمتوحّش، بل رجلا مجنونا يبدو وكأنه يرثي نفسه ويتحسّر على ضياع آخر أحلامه، حيث برع الرسام في إبراز ذلك الحزن الشديد الذي يهيمن على وجه إيفان
*إلهام
يقول ريبين في مذكراته إن الإلهام وجد سبيله إليه في رسمه لواقعة قتل إيفان لابنه، من حادثة اغتيال القيصر ألكسندر الثاني في 1881، في سانت بطرسبرغ في روسيا، عندما قام بذلك منظمة تدعى «نارودنايا فوليا»، حيث تعرضت عربة القيصر أثناء مرورها من أحد الجسور لهجوم بقنبلة يدوية ما أدى إلى انفجارها، وقد استلهم العمل كذلك الموسيقي نيكولاي ريمسكي كورساكوف..
بعد أن فرغ ريبين من رسم اللوحة، قام ببيعها إلى بافل تريتياكوف، وهو رجل أعمال روسي وجامع قطع فنية، لتُعرض في معرض له، ولا تزال تلك اللوحة تُعرض في غاليري «تريتياكوف» في موسكو، وتعتبر من أثمن مقتنيات الغاليري.
*تشكيك
عاد الحديث عن اللوحة بقوة في عام 1918، وذلك بعد أن تعرضت للتخريب من قبل رجل كان في زيارة لغاليري «تريتياكوف»، حيث انهال الرجل على اللوحة بقضيب حديدي، وقد برر الرجل تلك الفعلة بأنه على ثقة بأن اللوحة أسهمت في تزوير التاريخ الروسي، فهي غير صادقة في رصد وقائعه، فاغتيال القيصر لابنه واقعة غير حقيقية ومختلقة تماما، وفي الواقع الكثير من الروس قد شككوا في صحة تلك الحادثة، وطالب القوميون المتشددون الروس بإزالتها من المعرض، وهو الأمر الذي قوبل بالرفض بشدة.

3
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"