عادي

البحث عن الأسئلة

23:49 مساء
قراءة 5 دقائق

القاهرة: وهيب الخطيب

ماذا لو سألت أحدهم «ما فلسفتك في الحياة؟»، يبدو السؤال غير سهل بالمرة، خاصة إذا قصدنا بفلسفة الحياة الإطار الفكري لمعرفة كيف يكون العالم؟ وكيف نتجانس معه؟

مؤكد أن فلسفة الحياة تتضمن عناصر عدة، يمكن من خلال بعضها أن نقرر ما هو جيد وما هو رديء، وماذا نقصد بالنجاح، وبالتالي ماذا يعني لنا الفشل؟ وما الهدف الرئيسي في الحياة؟ حتى لو كنت لا تؤمن بوجود الهدف، إلى أن نصل إلى السؤال الأبرز: كيف نتعامل إنسانياً؟.

مع إعادة طرح السؤال السابق: ما فلسفة الفرد في الحياة؟ يمكن أن نلاحظ أن الكثيرين يسمونها بمسميات متعارف عليها، كأن يجيب أحدهم: فلسفتي الليبرالية، والثاني يقول: النسوية، والثالث يجيب: الدينية، ورابع يشير إلى التحرر، وخامس يتبنّى المحافظة، وهكذا دواليك، لكن هل يستطيع الجميع أن يعبر عن فلسفته على نحو واضح؟ وهل يمكن أن تلعب المسميات المشار إليها دوراً في حياتنا خاصة مع معايشتنا لعصر التكنولوجيا الفائقة، ودخولنا زمن منصات التواصل الاجتماعي؟.

الإشارة الأخيرة إلى عصر الإنترنت تدفعنا إلى السؤال عن دور الفلاسفة في الوقت الراهن، وهل يمكن أن يكونوا مفيدين للبشرية؟، لنقل هل الإنسانية بحاجة إلى الفلسفة حقاً الآن؟. للوهلة الأولى لا حاجة للفلاسفة على الإنترنت، لا فيلسوف ولا وجود له في نظر الكثيرين حالياً، ومهما كان الشخص حكيماً أو يمتلك معرفة أكثر من مصادر الإنترنت، فقد نستغني عنه، ويمكن لأي شخص مهتم بالموضوعات الفلسفية، اكتشاف كل شيء تقريباً في «ويكيبيديا» أو البحث عنه في أي مكان آخر، ولم يعد يتعين على طالب المعلومات حضور دورات جامعية للوصول إلى الموضوعات الفلسفية التي يهتم بها، ويمكنه العثور على أي معلومة في غضون دقائق على الإنترنت، مجاناً عملياً.

ومع ذلك إذا قلصنا الفلسفة إلى مجرد الحصول على المعلومات، فإننا نحرمها من أهم سماتها الأساسية ألا وهي: التفكير الذي تحفزه المحادثة، ومواجهة الحجج التي بفضلها يجعل المشاركون آراءهم أعمق وأوضح، وإذا قللنا من تدريس أو تعلم الفلسفة إلى امتلاك المادة التي يمكن الحصول عليها من خلال أحدث وسائل الاتصال هذه، فإن الإحساس بالفعل يتضاءل.

قوة تأويلية

ومع التطور الرقمي الهائل، فإن الحاجة إلى الفلسفة تبدو ملحة، لا للإجابة عن الأسئلة بقدر السعي إلى الصياغة السليمة للسؤال، انطلاقاً من أن السؤال الصحيح نصف الإجابة، ومن ثم لا تزال الفلسفة قادرة على طرح الأسئلة، ولا يزال المشتغلون بها يمتلكون طرائق الصياغة.

من نحن وكيف نتواصل مع الآخرين؟ هذان سؤالان أساسيان، الإجابة عنهما تجعل التغييرات التي تسببها شبكة الإنترنت واضحة بشكل خاص. فقد تغيرت الطريقة التي نشكل بها شخصياتنا ونتعامل بها مع محيطنا على نحو عظيم. ولم تعد تكنولوجيا المعلومات والاتصالات مجرد أداة؛ الأمر متشابك ومركّب على نحو لا مفر منه مع السياق الذي نعيش فيه. وفقاً للفيلسوف الإيطالي البريطاني لوتشيانو فلوريدي، فإنه يمثل قوة أنثروبولوجية واجتماعية وتفسيرية.

في عالم «كل شيء إلكتروني» التجارة الإلكترونية، والحوسبة، والهواتف الذكية، والتطبيقات، والأجهزة القابلة للارتداء، والدورات التدريبية عبر الإنترنت، ووسائل التواصل الاجتماعي، وغيرها، نحتاج إلى الفلسفة أكثر من أي وقت مضى، لقدرتها على دعم الإطار المنهجي، وإن فرضت التطورات العلمية مبحثاً فلسفياً جديداً يُعنى بفلسفة المعلومات، فلا تزال المباحث «التقليدية» تحتفظ ببريقها تحت كتلة من الغبار.

وبالعودة إلى فلوريدي الذي يعمل أستاذ فلسفة وأخلاقيات المعلومات في جامعة أكسفورد، ومديراً ل«مختبر الأخلاقيات الرقمية» في الجامعة ذاتها، فإنه يرى أن العالم يعيش في المرحلة الراهنة «تسونامي المعلومات» يصفه ب«التاريخ المتخم أو المكتظ»، الذي يفيض على البشرية من كل صوب وحدب؛ الأمر الذي يدفع إلى التفكير في ما بعد الإنسانية والكائن «السايبورغ» من جديد، لتكتسب الفلسفة دوراً جديداً يكمن في اتجاهين، الأول فهم التطورات وإعادة التفكير في مسائل بدت ثابتة ومستقرة أبرزها الهوية الإنسانية، والثاني حماية الإنسانية خاصة من أوهامها المتعمقة ب«السيادة البشرية على النطاق الرقمي».

قيم

ثمة مفارقة هنا، فبينما نوسع قوتنا من خلال أنظمة التحكم المعلوماتية، فإننا نفتح الباب في الوقت نفسه للسيطرة على هذه الأنظمة التي نبتكرها وتقييدها. هنا يرى الفيلسوف وعالم الرياضيات الأمريكي نوربرت وينر في خضم هذا الصراع «الحاجة إلى علماء الأنثروبولوجيا والفلاسفة» لمساعدتنا على فهم إنسانيتنا وتوجيه قيمة علم التحكم الآلي واستخداماته.

مخاوف وينر المتوقعة لا تتعلق بالقوة الواضحة لأنظمة التحكم على حياة البشر فحسب؛ لكن أيضاً بإغراء البشر للسيطرة على بشر آخرين من خلال هذه الأنظمة. ويخلق التفاعل الرقمي فرصاً للاتصال طوال الوقت، بينما يفتح الباب أمام آليات معالجة غير مسبوقة، ويبقى السؤال المفتوح: كيف سنتعامل مع العوالم الرقمية الجديدة التي أنشأناها؟.

على جانب ليس بعيداً، أشار عالم الكمبيوتر في معهد ماساتشوستس للتكنولوجيا جوزيف وايزنباوم، إلى قلق على نحو خاص من إزاحة الحكم البشري والأخلاق من خلال الذرائعية التكنولوجية.

وشدد في كتابه الرائد الصادر عام 1976 «قوة الكمبيوتر والعقل البشري»، على أن التنفيذ غير التأملي للحلول التي يقودها الكمبيوتر معرض لخطر يؤدي إلى نوع من الشهوة المنطقية والواقعية التي حاولت إخفاء قيمها ومخاطرها التي لا جدال فيها، لينصح بأن نجد الشجاعة لتحدي «وجهات النظر العالمية التبسيطية المانحة للعلم سطوة لا نقاش فيها».

إجابات نمطية

«هل تملك الفلسفة فرصة للبقاء في القرن الحادي والعشرين؟»، السؤال السابق سبق أن طرح على الباحثين نيقولا روسو وهنري دو مونفاليي، مؤلفي كتاب «منتحلو الفلسفة»، الذي تناول في فصله الأخير الفلسفة على منصة «يوتيوب».

وخلال الحوار الذي ترجمه الكاتب المغربي عبده حقي، أوضح الباحثان أن الفلسفة تبدأ عندما يتساءل المرء: هل كان سبينوزا على حق؟ هل ما يقوله صحيح؟، ليس من الواضح أن هذه الأنواع من الأسئلة يمكن أن تؤدي إلى الكثير من المشاهدات على «يوتيوب»، لكن من يدري؟، موضحين أنه لا يزال بإمكاننا القول إن مقاطع الفيديو الفلسفية على «يوتيوب» تتوافق مع كسل خريجي المدارس الثانوية والناشئة الذين يريدون كل إجابة جاهزة ومنمطة.

وهاجم الباحثان بعض مقدمي المحتوى الفلسفي على المنصات الرقمية استناداً إلى أن نهجهم يتأسس على تقليص الفلسفة إلى تعلم بعض الكلمات المفاتيح والأفكار العمومية مثل: سبينوزا، وكوناتوس Conatus وجوهر الإنسان. والأهم من ذلك كله، أن مقاطع الفيديو هذه تغذي الفكرة الأوسع انتشاراً بأن فلسفة التعلم هي معرفة ما قاله الآخرون: ما رأي سبينوزا في الحرية؟.

واستدرك الباحثان أنه «لحسن الحظ لا يوجد محتالون في وسائل الإعلام الرقمية فقط! هناك أناس جادون ويستحقون الاهتمام بأعمالهم»، مؤكدين أهمية التفكير في عدد من الأسئلة مثل: ما الذي يطفئ رغبة الجمهور في الفلسفة؟ وما الذي يزعج الفطرة السليمة في درسنا الفلسفي؟ من ناحية الجفاف وتجريد الموضوعات. ولعل الأهم من ذلك، هو موقف المفكر الذي يتخبط ويظن أنه أذكى من الناس العاديين.

بالبحث عن الفلاسفة الذين يعنون في المقام الأول بلعب دور فلسفي في عصر الرقمنة ومنصات التواصل، فإننا يمكن أن نتوقف بشيء من التأمل، أمام عدد لا بأس به مثل الأستاذة الأمريكية في قسم تاريخ الوعي وقسم دراسات المرأة في جامعة كاليفورنيا دونا هارواي، صاحبة بيان «السايبورغ» الشهير.

وإلى جانب هارواي تحل أستاذة في القانون والفلسفة في كلية القانون في جامعة بنسلفانيا أنيتا لا فرانس ألين، وهيلين نيسنباوم الأستاذة في علم المعلومات في جامعة كورنيل تك، فضلًا عن عالم الحاسوب الأمريكي جارون لانيير، والناشطة الرقمية جوي بولامويني، وتلعب هذه الأسماء دوراً في البحث عن مستقبل الفلسفة في عصر الرقمنة سعياً إلى الوصول إلى «عقلية أخلاقية وسياسية إبداعية مرنة وواسعة التفكير».

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"