عادي
مخترع وشاعر وفلكي ومهندس حربي

ليوناردو دافنشي.. الطاحونة الإيطالية

19:41 مساء
قراءة 4 دقائق

يوسف أبولوز

في ليوناردو دافنشي 1452-1519 أكثر من ليوناردو دافنشي، فهو وكما يعلم المولعون بكينونته الإيطالية، التعددية، بل والكونية.. رسام، ونحّات، ومصمم آلات، ومنها آلات حربية، وهو معماري، وموسيقي، بل وهناك من يعتبره عالماً في الفلك والجيولوجيا والفيزياء، ومع كل ذلك، ربما إذا سألت البعض ممّن بينهم وبين الكتب عداوة مزمنة.. مَنْ رسم الموناليزا فلن يعرف؟ وهي اللوحة التي غطّت على دافنشي وأصبحت أكثر شهرة منه، لا بل اختزلت الموناليزا بابتسامتها الغامضة ليوناردو دافنشي في كونه رساماً، وإذ به مخترع وشاعر وفيلسوف حي في الذاكرة الثقافية والإنسانية والعالمية إلى اليوم.

كتب ليوناردو دافنشي شذرات فكرية، ومؤلفات رمزية، وخرافات، وكتب نبوءات، وَطُرَفاً، ورسائل، وقصائد مجموعة كلها في كتاب صدر في طبعته العربية الأولى عام 2013 بعنوان «الأعمال الأدبية»، ونقلها عن الإيطالية مباشرة وهيأ حواشي الكتاب الشاعر والمترجم السوري (أمارجي).

الأعمال الأدبية لدافنشي تكشف عن معرفته البيولوجية والطبيعية للحيوانات، والزواحف والحشرات والطيور، يعرف أخلاقها وطبائعها وسلوكها أكثر من علماء الطبيعة وعلماء الحيوان، كما ويعرف دافنشي في النباتات والشجر والطبيعة فضلاً عن معرفته العميقة بأحوال الإنسان وطبائعه ودواخله ونفسيته المركبة.

**حكمة

يسوق دافنشي حكايات وقصصاً عن الحيوانات وعن النبات، تنطوي على حكمة وفلسفة ومن الحكايات الدّالة عن الأشجار مثلاً، حكاية شجرة الأرز:.. «.. شجرة الأرز، وقد انتفخت زهواً بجمالها، ما كان منها إلا أن انزوت بنفسها عن الأشجار المحيطة بها، وصَنَعَتْ برجاً منفرداً في الأمام، وهي إذ فعلت هذا لم تفطن إلى أنها أصبحت في مواجهة الريح، ولما لم يعد ثمة ما يصدّ ضراوة هذه، فقد طوّحت بها أرضاً مقتلعة إياها من الجذور..».

يصنع ليوناردو دافنشي قصصاً عن الأشجار أو على لسان الأشجار، ويجعلها محملة بالحكمة مثلما هي محمّلة بالثمار: شجرة الخوخ، شجرة الجوز، شجرة التين، نبات يُسمى «مهد العذراء»، الصفصاف، الكستناء، الغار، الكمثرى.. وغيرها من شجر كلها تتأنسن على يد دافنشي، وكل شجرة لها حكمتها ولها حكايتها، باختصار في أغلب الأحيان، وجميعها ذات طابع حكائي، أدبي، سردي، يضع دافنشي الرسّام في مصاف الأوائل من الأدباء في زمانه وفي إيطاليا التي كانت تمور في القرنين الخامس عشر والسادس عشر بالعديد من الحركات والاتجاهات والمدارس الأدبية والفنية والسياسية، لكن لم يعرف عن دافنشي تورطه في تيار سياسي في حدّ ذاته، ولم يدفع ثمناً لتبعات سياسية، بل كانت حياته كلّها مكثّفة في الكتابة، والرسم، والاختراع.

من أجمل ما كتب دافنشي قطعتان قرأتهما له واحدة عن الحبر والورق، والثانية عن المرآة. القطعة الأولى تقول لنا إن بقاء ومجد وكينونة الإنسان وهويته وشخصيته قد تكون بسبب شيء صغير وبسيط جداً، والقطعة الثانية تقول لنا إن الناس المنفوخين بالغرور عليهم دائماً أن ينظروا إلى أنفسهم في المرايا، أو يقرأوا حكاية المرآة، يقول دافنشي: «.. تنتفخ المرآة غطرسةً إذ تحتوي الملكة التي تتمرآى فيها، فإذا الملكة غادرت، عادت المرآة إلى ما كانت عليه..»، أما حكمة الورقة والحبر فتتمثل في قول دافنشي: «. لما رأت الورقة نفسها مبقّعة بالكامل بالسواد المعتم للحبر، راحت تبث الحبر أَلَمَها العميق، وكان هو -أي الحبر- يوضّح للورقة أن الكلمات المصفوفة عليها هي سبب بقائها..».

ولكن ماذا بشأن الطيور؟.. إن لكل طائر حكمة وسلوكاً وحياةً - وحكاية. لا بل أن أمثولة الطير هي درس الأخلاق الأول أحياناً بالنسبة للإنسان، وأكثر من ذلك، كم من «منطق الطير» لدافنشي ما يصلح لأن يتحول إلى شعر!، بل، كم من القصص القصيرة أو الطويلة التي يمكن أن تتمخض عن حكايات الطير الصغيرة لهذا الفنان الذي يحمل في داخله فيلسوفاً أو حكيماً وهو يتحدث مثلاً عن طائر «الحسون»!.. يقول دافنشي.. «.. الحسّون طائر يقال عنه أنه إذا ما جيء به أمام إنسان مريض، وكان هذا المريض على و شك الموت، فإن الطائر يدير رأسه إلى الجهة المعاكسة ولا ينظر إليه أبداً، أما إذا كان مكتوباً للمريض الخلاص من مرضه، فإن الطائر لا يرفع نظره عنه أبداً، بل ويكون هو سبب رفع كل مرض عنه..».

**فأل حسن

ولكن، ماذا عن الغراب؟ هذا الطائر الذي يتطير منه أهل الشرق، وتحديداً الشرق المتوسط، في حين أن الغراب في بعض الحضارات والمعتقدات فأل حسن على أي حال، يلمس ليوناردو دافنشي حزن الغراب، يقول: «الغراب رمز للحزن، فهو عندما يرى أن صغاره قد ولدت بيضاء يغادر العش بحزن عظيم، ويهجر أفراخه باغتمام وتفجّع، ولا يطعمها حتى يرى عليها بعض الريش الأسود».

كتاب حيوان، وكتاب طير، وكتاب شجر في «الأعمال الأدبية» لصاحب «العشاء الأخير»، ولكن لنكمل شغفنا أو فضولنا نحو دافنشي الشاعر،.. هل هو في قوّة دافنشي الناثر أو الأديب أو الكاتب الرمزي والكنائي «من الكناية»؟.. للإجابة عن كل ذلك نقرأ ترجمة أمارجي الصافية والحرفية ذات الروح الإيطالية للنص الشعري في نهاية الكتاب.. يقول دافنشي على نحو فلسفي:

النار تدحر كل السفيسطات، والسفسطات وَهْم/ ولا تبقى إلا على الحقيقة، والحقيقة ذهب/ الحقيقة في خاتمة المطاف لا تقبل الحجاب/

المداجاة تذهب أدراج الرياح، المداجاة/ محكومة بالبطلان/ أمام القاضي الكبير/ الباطل يضع قناعاً/لا شيء يخفى تحت الشمس/

النار رمز الحقيقة لأنها/ تدحر كل السفسطات والأكاديب والقناع/ إنما هو قناع الكذب والباطل/ الذي يخفي الحقيقة.

**ورشة ضخمة

في نهاية الكتاب نطالع صوراً ورسوماً لبعض أعمال ليوناردو دافنشي الفنية واختراعاته، تكشف عنه كفنان ومهندس مخترع كما يقول (أمارجي)، ولكن بالنسبة لي على الأقل رأيت أن الرجل كان صاحب ورشة ضخمة بل صاحب أكثر من ورشة. وحده كان مؤسسة صناعية أو مؤسسة صناعة. فمن اللوحات الجدارية الضخمة الغارقة في اللون والظل والضوء، إلى مخططات أولية للوحات أنجزها وربما لم ينجزها هذا «الطاحونة» الإيطالية إن جاز وصفه.

نطالع مخططات ورسومات وضعها دافنشي كدراسة لحركة الماء عند مروره بعوائق وسقوطه، ودراسة مرسومة أو مخططة لحركة ذراع الإنسان، وفي عام 1488 وضع رسمة لِ «آلة طائرة»، وثلاثة تصاميم مختلفة لمدفع حربي وعربة قتالية ومنجنيق والرحم البشري والجنين، كما نطالع رسمة توضح دراسة لطيران الطيور بحسب تيارات الهواء، ورسماً آخر لنبات، ومخططاً لكنيسة، وخريطة لبلدة إيمولا الواقعة في مقاطعة بولونيا في إيطاليا.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5n7yeez9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"