تناقضات حركة البشر

00:58 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

في كتابه «أزمة الوعي الأوروبي»، ذهب المفكر الفرنسي بول هازارد إلى أن حركة السكان الكثيفة بين مختلف بلدان أوروبا وبقية العالم في نهاية القرن السابع عشر، كانت فاتحة لعصر جديد من التقدم العلمي والهيمنة على العالم من خلال عصر الكشوف الجغرافية وتشكيل أماكن لاستيراد المواد الخام وأخرى لتصنيعها ومن ثم إعادة تصديرها، وتشكيل مراكز وهوامش وعوالم أولى وثانية وثالثة. 

  نحن نعيش الآن في مرحلة مثل هذه وتحمل المفارقات الصارخة نفسها، نتيجة صعود جديد للرأسمالية متمثل في ثقافة العولمة التي تقوم على تناقضات في مختلف حقول الحياة. 

  تتمثل تلك المفارقات في أننا في الوقت الذي يعيش فيه العالم منذ عدة عقود طفرة في السياحة وحركة البشر وما يرافقها من حراك للاستثمار ورأس المال والبضائع والتجارة، نشهد حالياً موجات من اللاجئين والنازحين والهاربين في قوارب لا شرعية. وبينما يبحث العالم عن غواصة اختفت وهي تحمل على متنها خمسة أشخاص من الأثرياء يتنزهون لرؤية حطام السفينة «تيتانك» وتابع أخبارها لحظة بلحظة ورصد كل ما تعلق بها، فإن هناك قارب الموت الأخير الذي تحطم قرب سواحل اليونان وحمل على ظهره المئات من الباحثين عن فرص أفضل في الحياة، غرق منهم العشرات من بينهم أطفال، ولم يجد الاهتمام أو المتابعة الإعلامية الكافية.

   يقول تقرير للأمم المتحدة أن هناك نحو 70 مليون لاجئ، من بينهم 37 مليون طفل، وهو رقم أكثر من ضعف ما كان الحال عليه منذ عشرين عاماً، واللاجئ لا يترك وطنه بسبب الحروب والنزاعات وحسب، ولكن منذ فترة قصيرة أضيف سبب آخر يتمثل في التغير المناخي، والمفارقة أن نحو ثلث هؤلاء اللاجئين يعيشون في دول تعاني أصلاً أزمات ومشاكل اقتصادية، أي أن فرصهم في تحسين حياتهم ليست في مستوى أحلامهم وطموحاتهم.

  لنتوقف هنا ونتأمل رقم 37 مليون طفل غادروا أوطانهم قسراً، ولنسأل عن مستقبل هؤلاء، ومعظمهم لن يتوفر لهم تعليماً جيداً أو رعاية صحية موزونة، ولن يعرفوا معنى الانتماء أو الوطن أو الاستقرار أو الارتباط الوجداني بمكان ما، وبعضهم سيمارس المهن الرثة، والبعض الآخر سيتورط في أعمال غير شرعية وربما خارجة عن القانون، وفريق ثالث منهم سيكره الآخرين والواقع المحيط به، ومجموعة رابعة ستشكل بيئة خصبة لتشرّب الأفكار العنيفة والإرهابية. أي أننا أمام كتلة بشرية ضخمة مستقبلها سيكون مأساوياً. الأقلية منهم فقط هي من ستحظى بحياة جيدة وستستطيع الاندماج والتكيف مع المجتمعات الجديدة وتتأقلم مع ثقافتها.

  حركة البشر عامل تاريخي قوي يدفع إلى الأمام، تفتح العيون على ثقافات الآخرين، ترسخ للتواصل والحوار الحضاري والتفاهم وتردم الهوة بين المختلفين، ونعرف من خلالها أننا كلنا بشر لا ميزة لأحد على آخر، ولكن ربما تكون أيضاً لعنة تفتح أبواب الهيمنة والسيطرة بالنسبة للأقوياء، والضياع والتخبط بالنسبة للفقراء والضعفاء ومن يبحثون عن فرصة أفضل في الحياة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2azufd82

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"