عادي

الكتاب بلد الشاعر رسول حمزاتوف

19:29 مساء
قراءة 4 دقائق
الكتاب بلد الشاعر رسول حمزاتوف

الشارقة: يوسف أبولوز

في هذه الدورة من المعرض، وفي دورات سابقة نعاين ما يمكن تسميته «كتب الذاكرة»، والمقصود بها تلك الكتب التي طبعت منذ ثلاثين أو أربعين عاماً وربما أكثر، ولا تزال هذه الكتب موجودة في المعارض، ولم تغب عن العرض وإعادة الطباعة «بعضها وصل إلى الطبعة العشرين»، كما لو أن للكتب سلالة دائمة جريان الدم، ومن هذه الكتب نجد كتاب «بلدي»، وفي طبعات أخرى «داغستان بلدي» للشاعر الجبلي رسول حمزاتوف، والقارئ يعرف قبلي أن هذا الكتاب قديم ومتداول على نطاق واسع، ونقل إلى العربية بحرفية ترجمانية عربية، ولكن لماذا أقدّم هذه السلالة اليوم للقارئ أو لقارئ المعرض؟، الإجابة في رأيي أنه ما من كاتب في العالم تحدّث عن الكتاب مثلما تحدّث رسول حمزاتوف.. أولاً جلس حمزاتوف يكتب فصلين أو أكثر عن الكتاب نفسه «بلدي»، ولكن الأهم من ذلك ماذا قال حمزاتوف عن الكتاب، أي كتاب، الكتاب بالمطلق ونحن اليوم في وليمة عظمى من الكتب في الشارقة.

الصورة

 

يخصص حمزاتوف فصلين عن «الكتاب» من صفحة 512 إلى صفحة 540 بلا توقف وهو يتحدث عن الكتب، وهو يقول إن كلمة «تييخ» في اللغة الأفارية تأتي بمعنيين: جلد الغنم، والكتاب، ويقول لكي يعرف الإنسان نفسه يحتاج إلى الكتاب، ولكي يعرف الآخرين يحتاج إلى الكتاب، ويرى حمزاتوف أن تاريخ العالم، كمصير أي إنسان يجب أن نقسمه إلى قسمين:.. قبل ظهور الكتاب، وبعد ظهوره. الفترة الأولى ليل، الفترة الثانية نهار ساطع. الفترة الأولى وادٍ ضيق مظلم، والثانية سهل واسع أو قمة جبل، ويقول في مكان آخر من كتابه «بلدي» إن المحارب الأرمني «مسروب ماشتوتس» قد خطرت له فكرة قبل ألف عام، وهي أن الكتابة أقوى من السلاح، فوضع الأبجدية الأرمنية.

لم يكتفِ رسول حمزاتوف بهذا السيل الجارف من النثر في مديح «الكتاب»، بل كتب شعراً أيضاً في هذا المديح الطويل.. يقول: «آه، أيها الجبلي، أيها الجبلي، يا جدي

أية خطيئة اقترفت

أخذت الجواد والسيف

ولم تأخذ الكتاب»

ويقول حمزاتوف إنه ذات عام زار قبر عمر الخيام في نيسابور، وهناك فكّر حمزاتوف في نفسه قائلاً: «صديقي الخيام.. أنت لا تعرف مقدار البهجة التي كانت شعوب الجبال ستستقبلك بها لو جئت أنت آنذاك بدل الشاه» ويقول، لو أن شاهات إيران لم يأتوا داغستان يحملون الحديد والنار بل حكمة الفردوسي وحب حافظ شيرازي ورجولة السعدي وفكر ابن سيناء، لما اضطروا إلى الفرار من داغستان.

يريد رسول حمزاتوف القول إن الكتب أقوى من الحديد والنار.

 

*حكاية

يروي رسول حمزاتوف هذه الحكاية: «حين أخذ الجبليون يجمعون الغنائم بعد معركة عنيفة مع قطعان تيمورلنك قرب قرية كوموخ، وجدوا كتاباً في جيب أحد القتلى، قلبوا صفحاته وانحنوا فوق حروفه، لكن لم يكن بينهم من يستطيع أن يقرأ، عندئذ أراد الجبليون أن يحرقوه ويمزقوه ويذروه في الرياح، لكن «بارتو باتيمان» الذكية والشجاعة تقدمت وقالت: حافظوا على الكتاب هذا مع السلاح الذي غنمناه من العدو، فإذا لم نستطع نحن أن نقرأه فسيقرأه أبناؤنا أو أحفادنا.. وفي رواية أخرى تكشف عن مدى عمق علاقة العربي بالكتاب يروي حمزاتوف أنه في المعركة التي خاضها سراقة التونسي ضد العرب، سلم أحد العرب الأسرى الجبليين فرسه و سلاحه وترسه، لكنه لم يسلم الكتاب الذي أخفاه في صدره. «شامل» اسم رجل من أبطال الحرب في داغستان، ظل يحارب القياصرة سنوات طويلة، ويقول حمزاتوف إنه كانت لشامل مكتبة كبيرة، وظل طوال خمسة وعشرين عاماً يحملها معه على عشرة بغال من مكان إلى آخر.

يذكر حمزاتوف أيضاً أن لينين في العام 1921 أرسل إلى داغستان ثلاثة أشياء يراها حمزاتوف أشد الأشياء ضرورة: القمح، والمواد، وحروف الطباعة.

ولكن، كيف كان والد حمزاتوف يقرأ.. يقول إن والده كان يحرث الأرض، ويحش العشب، ويحمله على العربة، ويسقي الحصان، ويمتطيه، ولكن كان دائماً يرى والده وكتابه في يده..

يقول كان يمسك الكتاب دائماً، كما لو كان عصفوراً مستعداً دائماً لأن يطير من يديه، كان يشعر دائماً، وهو المحب للضيوف، بالضياع والارتباك، إذا أتاه أحدهم وصرفه عن القراءة كأنما صرفه عن صلاة مهمة. وفي الساعات التي كان والدي يقرأ فيها، كانت أمي تمشي على رؤوس أصابعها، واضعة طوال الوقت إصبعها على شفتها لتجبرنا على أن نتكلم همساً.

..لا تضجوا، والدكم يشتغل.. كانت تدرك تماماً أن قراءة كتاب بالنسبة لأديب هي عمله.

وهي ذاتها لم تكن تجرؤ أن تدخل عليه لترى إن كان في حاجة إلى شيء، إن كان الحبر قد نفد في الدواة. فقد كانت دائماً تراقب بحرص دواة والدي ولم تكن تدعها تجف أبداً.

إذا كان في حياة والدي يومان بهيجان، فالكتب هي التي حملتهما إليه..».

يقول، إن والده، وهو كما نعرف كان شاعراً معروفاً في زمن الاتحاد السوفييتي، وكان والده يستخدم العربية، كان يحب في اللغة العربية حروفها ذاتها، أشكالها ويرى فيها مواطن الجمال، وكان يقول: «لقد هاجم العرب داغستان وهذه حقيقة، لكن الكتابة العربية لا ذنب لها في هذا، وكذلك الكتب العربية..».

كانت اللغة العربية، كما يوضح حمزاتوف منتشرة في داغستان ويقول: «بعضهم كان يكتب بالعربية؛ لأنه لم تكن لداغستان أبجديتها، وبعضهم كان يرى العربية أغنى وأبهى من اللغات الداغستانية..».

كان والده يجمع الكتب القديمة الموجودة في القرى الجبلية، ويدفع ثمنها سلاحاً وخيلاً وأبقاراً، وفيما بعد حفنة دقيق أو قطعة قماش.

مات والد رسول حمزاتوف في مكتبه، قرب كتبه وَرِيَشِهِ وأقلامه.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/5fctc8v9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"