امرأة نَبْتة

00:02 صباحا
قراءة دقيقتين

مذكرات فرانسواز جيلو التي جاءت تحت عنوان «حياتي مع بيكاسو» ليست مجرد ذكريات، بل هي درس في الرسم، ومَن أستاذ هذا الرسم؟ إنه بيكاسو الذي نعرف له أكثر من وجه في هذا الكتاب (ترجمة: ميّ مظفر).

كيف كان يرسم بيكاسو؟ تقول فرانسواز جيلو إنها أمضت طوال شهر وهي ترقبه وهو يرسم، في مرة رسم لوحة لها وظل، كما تقول، واقفاً أمام اللوحة ثلاث ساعات متواصلة أو أكثر، لا تكاد تبدو منه أي إيماءة غير ضرورية، تقول إنها سألته إن لم يكن يتعبه الوقوف طوال هذا الوقت في بقعة واحدة، وقالت إنه هزّ رأسه وقال لها: «لا، لذلك يعيش الرسّامون عمراً طويلاً، فعندما أعمل، أترك جسدي وراء الباب، مثلما يخلع المسلمون أحذيتهم قبل الدخول إلى المسجد».

تقول إنه أحياناً يترك اللوحة التي يعمل عليها، ويمضي إلى الطرف الآخر من مشغله (مرسمه) ويجلس على كرسي ذي مسندين مصنوع من قضبان الصفصاف، له ظهر من طراز قوطي عالٍ، يظهر في الكثير من لوحاته «الكرسي». تقول: كان يضع ساقاً على ساق، ويسند أحد مرفقيه على ركبته مُريحاً ذقنه على قبضته، ويضع اليد الأخرى خلفه، وكان يبقى هناك يتدارس اللوحة مدة قد تستغرق ساعة من دون أن يتكلم.

تقول إنه كان هناك صمت مطبق في المحترف (المرسم)، لا يكسره إلا حوار بابلو مع نفسه أو حوار عابر، ولا شيء يتدخل أبداً من العالم الخارجي، وحين يأخذ ضوء النهار بالاختفاء منسحباً عن اللوحة، كان بابلو يضيء مصباحين ساطعين، فيغرق كل شيء في الظل، ما عدا سطح الصورة.

قال لها بابلو بيكاسو ذات يوم إن الرسم هو الشعر، وقال إنه يكتب شعراً بقافيات تشكيلية، ولا يكتب بالنثر أبداً، وقال: القافية التشكيلية هي تلك العناصر التي يقفي الواحد منها الآخر، والتي توجد نوعاً من السجع، إما بتوافقها مع الأشكال الأخرى أو مع الفضاء الذي يحيط بها.

حين أنهى بيكاسو رسم الصورة الشخصية لفرانسواز جيلو، تقول إنه بدا راضياً، وقال لها: نحن جميعاً حيوانات بشكل أو بآخر، وإن ثلاثة أرباع الجنس البشري يشبهون الحيوانات، ولكنّكِ لا تشبهينهم. إنك مثل نبات ينمو، وقد احترت كيف أنفذ الفكرة (يقصد كيف يرسم وجهها). وقال لها: أنت تنتمين إلى مملكة الخضراوات، ولا تنتمين لمملكة الحيوانات.

ترى بعد كل ذلك، ما الذي يجعل فناناً في حجم بيكاسو يجلس أكثر من 3 ساعات صامتاً أمام لوحة ليرسم الوجه التشكيلي الذي يريده لفتاة كانت في أوّل العشرين من عمرها، وهو كان يكبرها بأربعين عاماً؟

أعتقد بكل بساطة أنه الحب الذي يجعل من المرأة نباتاً، شجرة أو وردة، وليست حَيَوانة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yv7s3da3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"