عادي

مهرجان الفنون الإسلامية في الشارقة..بلاغة العين

00:18 صباحا
قراءة 5 دقائق

الشارقة: محمد إسماعيل زاهر

المكان الذي لا يحتفي بالفنون لا يعوّل عليه، إذا استعرنا لغة محيي الدين ابن عربي في رسالة «الذي لا يعول عليه»، وسنرى أن مهرجان الفنون الإسلامية يجمع بين المفردتين، المكان والفنون، بل ويدمج بينهما، حتى لا يمكننا تصور المكان، وهو هنا الشارقة، بمعزل عن الفنون، ولا يمكننا أيضاً تخيل تلك النهضة التي تشهدها الفنون من دون مكانها أو قلبها، الشارقة، ذلك المكان الذي يغذي الفنون بالرؤية والاهتمام والدعم، أو هي ببساطة صارت قلب الفنون.

أول ما يستوقفنا في المهرجان ذلك التنوع الذي يشمل المفاصل كافة، على مستوى الشكل والمضمون، وحتى أماكن عرض الأعمال الفنية. في المهرجان هناك أسماء لفنانين من مختلف بلدان العالم، هذا من إسبانيا، وذاك من كندا، وربما نتوقف أمام عمل فنانة من الإمارات، وأخرى من السعودية. فنانون يجمع بينهم الإبداع بغضّ النظر عن الجنسية والدين والمعتقد، وبغضّ النظر مرة أخرى عن التوجه الفني، فالمهرجان مختبر مفتوح على مدار واسع ولا نهاية له من «تجليات» الإبداع.

مستوى آخر من التنوع يقابلنا في مضمون مختلف الأعمال المشاركة في المهرجان، هنا سنجد لوحة خطية كلاسيكية، وفي مكان آخر سنطالع حروفية، وهناك نشاهد أعمال تتقاطع مع مفاهيم الحداثة، وربما ما بعد الحداثة، أحد الفنانين يطلق على عمله «ما بعد الهندسة»، وفي زاوية أخرى من المهرجان احتفاء بالصورة الفوتوغرافية، أو من يتقاطع معها، بصيغة أو أخرى، وبات الجميع مدعواً للمشاركة في المهرجان، كأن لسان حاله يقول «طالما مهتم بالفنون، فأنت على صلة وصل ما بالفنون الإسلامية»، وفي ذلك مغزى ودلالة ورسائل يودّ المهرجان أن تصل إلى الجميع.

مستوى ثالث من التنوع نلاحظه في أماكن تواجد الأعمال المشاركة: في متحف الشارقة للفنون، بيت الحكمة، مركز الشارقة لفن الخط العربي والزخرفة، بيوت الخطاطين، مدرج خورفكان، شاطئ كلباء، جمعية الإمارات للفنون التشكيلية، جمعية الإمارات للتصوير الضوئي، اتحاد المصورين العرب. المهرجان هنا يود الوصول إلى الجميع بمستوياتهم المختلفة أيضاً، فهناك من يهدف المهرجان إلى الارتقاء بذائقته البصرية الجمالية، ومن يسعى إلى إثارة شغفه، ومن يحرك خياله، ويثير أسئلته ويحفز تأمله للتفكر مرة تلو الأخرى في الفنون الإسلامية: تاريخها وحاضرها ومستقبلها، والقيم التي تنشرها والرسائل الواضحة والكامنة خلف كل عمل.

التنوع في المهرجان كذلك لا يقف عند هذه المستويات وحسب، ولكنه أيضاً سياحة في الزمن، أو تجاور للحظات ثلاث متعاقبة، الماضي والحاضر والآتي، تنتظمها لحظة واحد ممتدة، هي لحظة المهرجان، فهناك بإمكاننا ملاحظة تطور الخط والزخرفة والتذهيب، وإدراك ما دخل على فنوننا القديمة من تطور، وأعمال أخرى تتماس مع اللوحة المسندية التقليدية، وأعمال تتجاوزها، وأعمال فائقة الحداثة تستخدم الإضاءة بأساليب مختلفة، هو زخم يرصد تطور كل نوع فني، وفي الوقت نفسه يتابع تطور الفنون الإسلامية جميعاً.

رسائل

التنوع في المهرجان أيضاً يمتد إلى مجموعة الرسائل التي ينطق بها، أولاً، نحن حضارة لها فنونها المتنوعة، ذات التاريخ الممتد والتي تتسم بأصالة من نوع خاص، وتمتلك مفردات تختلف عن فنون الحضارات الأخرى، ثانيا تستطيع فنوننا أن تؤكد مكانتها في العالم المعاصر، بل وتتفاعل معه عبر قانون التأثير والتأثر، وهو قانون صحي يتجاوز بؤس الصدام في معادلة الأنا –الآخر التصارعية غالباً، فالجميع مدعو إلى ممارسات فنية أصيلة في مهرجان للفنون الإسلامية، هنا في الشارقة.

إن إلقاء نظرة سريعة على عناوين ومضامين بعض الأعمال المشاركة في المهرجان يؤكد التنوع من جهة، والوحدة العضوية من جهة أخرى، وهو مزيج ينبع من فهم إسلامي حضاري أصيل لطبيعة الفن: هناك أعمال بعناوين: «عتبات»، «اللانهائية والتجلي»، «البحث عن الإشراق»، «المركز»، «القوة حيث يكمن الضوء»، «بوابة»، «متاهة المرايا»، «على الفطرة»، «حدود متجاوزة»، «الجوهر»، «سحابة روح»، «تحوّل»، «تسع وتسعون»، «تمدد الزمن»، «تجاوز الحُجب»، «رحلة النور»، «الوعي الجمعي»، «مراحل الوجود»...إلخ، أعمال تظهر وتخفي، تقول وتهمس، تبطن وتظهر، تخاطب العين ببلاغة خاصة، وتحاور العقل بالمجاز والكناية، تخطف البصر وتحفز البصيرة، تتنقل بخفة من المجرد إلى المقروء، من المرئي إلى المخفي، وببطء تصبح نصاً يحتاج إلى قراءة وتأويل في مبنى العمل ومعناه، في إشاراته وتحولاته، في مقدماته وعتباته، ومتنه وهامشه، وما يحيل إليه، هنا تكتمل رسالة الفن الإسلامي، فهذا الأخير ليس مداراً للعين وإمتاعاً لها، وحسب، ولكنه أيضاً تجلّ ما للعقل في انفتاحه على العالم كله.

ظل

في الفنون الإسلامية، كما في تراث التصوف بأكمله، ظل من سر، أسئلة ملقاة هناك وهناك، تتحول أحياناً إلى أحجيات، تحتاج إلى تفسير، وهذا الأخير يمنح تلك الفنون حياة جديدة، فيأتي من يضيف معنى لاحقاً إلى معنى سابق، وهكذا تتكاثر الدلالات، ويتشكل منها بناء متكامل الأركان يخاطب فينا العقل والقلب، وفي الوقت نفسه يتجاوز الأزمنة والأمكنة، ويرتحل عبر التاريخ، من هنا جاذبية فنوننا للآخرين، فهناك من يتماهى معها للإجابة عن أزمة وجودية يتعرض لها، وهناك من يتطهر فيها ليتخلص من أزمة إنسان العصر، ومن يبحث عن لحظة نقاء يجد فيها ذاته، أو يعرج على مستوى الخيال بعيداً عن كل ما يكبّله، ويشدّه إلى اليومي والعادي والمعيش، والذي يفنى سريعاً.

الفنون الإسلامية عروج بالخيال، ووقت نتجاوز فيه المشهد التقليدي، والحوار التقليدي، والفكرة التقليدية، هو وقت تركن فيه الروح أيضاً لكل ما ترتاح إليه، تنال فيه قسطاً من سكينة، وتلتقط فيه الحواس كل ما تألفه، فالعين والسمع، واليد أيضاً، تتعامل مع كل ما ينتمي إلينا.

قلنا في البداية إن قيمة المهرجان الأساسية أنه يجمع بين مفردتين: المكان والفنون، والمكان هنا يبدأ من الشارقة ويرتقي تدريجياً إلى فضاء عربي وإسلامي وعالمي، وانتظام المهرجان على مدى 25 دورة يؤكد أن الشارقة باتت تتحدث فناً، وهو حديث يحتاج إلى قراءات خاصة مطولة، تحلل الفعل والأثر، الهدف والنتيجة، ما أنجز، وما نتطلع جميعاً إليه.

رؤية

يمتزج المكان والفنون، حتى يدل كل منهما على الآخر، وكل هذا يصب في رؤية أوسع، تستهدف أولاً الإنسان، والاتساع بوعيه ليدرك قيمته، وقدرته على تذوق الفنون، والتعاطي معها، وثانياً الرغبة الأكيدة في استعادة مكانة العرب والمسلمين في الحضارة مرة أخرى، فالفنون ليست وافدة علينا، ومن يقرأ مقدمة ابن خلدون فقط، يدرك أهميتها في الأفق الإسلامي، فالفنون صناعة التحضّر، كان ابن خلدون يؤرخ لذروة الحضارة، يحفظ ما أنجز لمن سيقبل بعده، فربما صعدنا مرة أخرى، واحتجنا لصلة وصل مع ماضينا المزدهر، والمكان بثقله وفعله، الشارقة، ها هو يستعيد تلك الصلة، ويمهّد ليس للحظة تراجع، كما ابن خلدون، فهي هنا في الشارقة لحظة عروج.. تقدم.. نهوض.. ارتقاء، والفنون من أبرز وسائلها لتستعيد الذات منجزها وقدرتها على التأثير، وأن تكون مركز جذب للآخرين، والإضافة إليهم.

افتتاح مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية تصوير: (( هيثم الخاتم ))
افتتاح مهرجان الشارقة للفنون الإسلامية تصوير: (( هيثم الخاتم ))
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/22rzfrmw

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"