مكتبجي يحب السمك

00:06 صباحا
قراءة دقيقتين

آخذ عَمّان في كل زيارة من سقف السيل «الحوريات» إلى ساحة المسجد الحسيني، حيث تباع العطور الشعبية، وقبل الساحة بقليل أمرّ من سوق العطّارين.. زوبعة من روائح النبات والأعشاب، عطّارون مُتجاورون في دكاكين صغيرة قليلة الإضاءة، ومنذ عشرات السنوات لم يصلح العطار ما أفسده الدهر، غير أن المرور في السوق أقرب إلى المرور في تاريخ العطارة، وتاريخ المكان العَمّاني الذي يتعارف عليه وسط البلد، حيث أسواق الملابس القديمة المستعملة «البالة»، وهي أسواق خط الفقر وما دون هذا الخط الحزين الذي لا يستطيع كتابته فنّانو الرقعة والنسخ.
بعد هذا الأفق التجاري المكتظ بالمشاة، تجد نفسك فجأة في سوق الفضة والذهب، حيث يقل المشاة ولكنهم لا يخرجون من سوقهم هذه بلا قلائد وأساور للعرس.
آخذ طريقي إلى كشك «أبو علي»، الملاصق لمبنى البنك العربي، وبالقرب منه أقدم محل لبيع الكنافة النابلسية، حيث يصطف أمامه طابور من عشاق الحلوى الساخنة التي تكون أكثر شهية في الصباح، غير أن من لا يشتري شيئاً من سوق «البالة» أو سوق «العطارة» أو سوق «الذهب» فلا بد أن يشتري صحناً من الكنافة، والأكل على الواقف، على الرصيف تماماً الذي وقف عليه «أبو علي» نحو خمسين عاماً حتى جعل من كشك الكتب أكثر شهرة مكانية من البنك.. أجلس نحو خمس عشرة دقيقة في الكشك، أستعرض الكتب واقفاً مع صحن الكنافة، ثم أودّع المكتبجي الشاب، أحد أبناء أبي علي، وأتوجّه إلى مكتبة قريبة في قلب البلد تماماً. مكتبة تعود في إنشائها إلى أكثر من خمسين عاماً، ولعلّها الوحيدة التي تجد فيها سلسلة عالم المعرفة الكويتية، يجلس فيها رجل مكتهل أخبرني ذات يوم أنه يحب السمك حين عرف أنني أقيم وأعمل في الإمارات، وعدته ذات يوم بأن أحضر له سمكاً من بحر الشارقة.
المكتبة صغيرة، هادئة تماماً، ويعاون المكتبجي الكهل رجل في نحو الأربعين أو أوّل الخمسين من عمره. هادئ هو الآخر، وله نفس طيبة ابتسامة صاحب المكتبة.
منذ أربعين عاماً، أتردّد على تلك المكتبة، وإن لم تكن في نيّتي شراء كتب، كنت إذاً أذهب إلى المكتبة تلك؛ لأطمئن على الرجل الذي يجلس هادئاً، عادة، وراء طاولة صغيرة.. ويقرأ.
أمس، كنت هناك، كانت المكتبة مغلقة، منذ سنوات طويلة لم يغلق ذلك الباب. سألت شاباً يبيع عطراً رخيصاً : ماذا جرى؟؟؟ قال لي باعوا المكتبة، سألته: والرجل: قال بقسوة: «مات».
ألقيت نظرة طويلة على الباب، درت على نفسي، وواصلت طريقي إلى «لا مكان».. أمس لم أشترِ كتباً جديدة من عالم المعرفة، ولم أحضر السمك للمكتبجي العتيق، وشعرت بغصّة في حلقي تركها بائع العطر الشاب.

[email protected] 

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yem5jbd7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"