مفارقات إحياء التراث

00:08 صباحا
قراءة دقيقتين
هل كان القلم يدرك مدى المجازفة حين طرح مسألة: «رأي في مفهوم التراث»؟ هل الشعوب والأمّة العربية جميعاً على رأي واحد في هذا الموضوع المتشعب؟ أنت لو سألت المئات عمّا هو التراث في نظرهم، لجنيت العجائب من المفارقات.
الهزّة الكبرى تحدث في اللحظة التي تستذكر فيها مقولة أينشتاين عن أن «الماضي والحاضر والمستقبل ليست سوى وهم، فهي كلها معاً»، وإلاّ فما معنى أن تستشهد بأقوال الماضين، استدلالاً بها في أمور حدثت حديثاً أو تحدث الآن؟ تتصادم الأفكار حين يستيقظ فيك الوعي الثقافي صادحاً: إن التراث لا يموت إذا كانت الأمّة حيّة. يموت التراث عندما تكون ثقافة الفعل قد ذوت وخبت جذوة الحياة فيها. عندها نرى المأساة الملهاة التي تمسي شرّ البليّة.
تخيّل شخصاً يرى مفاخر عملاق كأبي العلاء، الذي لا نظير له في تاريخ أدبنا، تحفاً متحفيّة. هل يجرؤ حتى متكلس الإحساس على النظر إلى المعري في عداد الأموات؟ ابن معرّة النعمان تفصله في أبعاد الفكر والمعرفة سنين ضوئية ظاهريّاً، عن محيي الدين بن عربي، لكن لا تنسَ المثل الفرنسي: «العقول الكبرى تتلاقى». لم يعد التراث يستهوي العرب برائعة مثل «رسالة الغفران»، التي هي أعظم تجلّيات الأدب العربي على الإطلاق، أو قمّة إيفرست التصوف العربي في الأعمال الكاملة التي لا تتجزّأ، لدى ابن عربي، وخلاصتها نظرية «الإنسان الكامل»، قبل سوبرمان نيتشه بقرون. إذا توسّعنا في مفهوم الثقافة، انحدرنا إلى مستوى التخلي عن كل تلك القمم الثقافية العرفانية، وقنعنا بالوجبات السريعة وسراويل الجينز الممزقة من خلف ومن قدّام.
الطريف أن الغافلين يتوهمون أن المسار تطوّريّ تقدميّ. الحمد لله على أن هؤلاء ليسوا على مُكْنة فلسفية، فيفتروا علينا أن تلك هي حتمية التاريخ. أن يغدو أساطين الموسيقى العربية تراثاً قديماً، والنشارة الموسيقية اليوم هي التطور الطبيعي العصري. لا بدّ إذاً من إعادة النظر إلى التراث. لا يمكن أن يكون تراجيكوميديّاً من قبيل فيزياء الكمّ عند شرودينغر والقط الحيّ الميّت، أو ما سبقته به زوجة صخر شقيق الخنساء، بعد إصابته القاتلة ببطء، حين قالت عنه: «لا حيّ فيرجى، ولا ميّت فينعى».
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: التراث ليس ميّتاً لنحييه، إلاّ إذا نحن قتلناه، فعندئذ، استحضار الأرواح شعوذة.
[email protected]
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/ypj7p4ax

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"