عادي
موقعها الجيوسياسي وثرواتها الطبيعية أهم الأسباب

آسيا الوسطى والقوقاز.. ساحة صراع «الأفيال الضخمة»

23:20 مساء
قراءة 8 دقائق
القمة الأولى بين الرئيس الأمريكي ودول آسيا الوسطى
الرئيس التركي رجب طيب أردوغان
جانب من مناورات الجيش الامريكي مع الجيش الارميني
تدريبات مشتركة بين الجيش الروسي وقوات منظمة الأمن الجماعي على الأراضي الكازاخية
تقارب صيني روسي في آسيا الوسطى جنوب القوقاز

د. أيمن سمير

توجهت أنظار القوى الكبرى والعظمى في العالم إلى منطقة جنوب القوقاز وآسيا الوسطى منذ اليوم الأول لتفكك الاتحاد السوفييتي، ورأت تلك القوى «مغانم ومغارم» في تلك الأقاليم الشاسعة من العالم، وظلت الحسابات الجيوسياسية تراوح مكانها حتى 24 فبراير 2022 عندما اندلعت الحرب الروسية الأوكرانية، وهنا بدأ التنافس ليس فقط بين القوى الإقليمية القريبة في المنطقة، بل تصاعد التنافس الذي يصل إلى مرحلة الصراع بين القوى الكبرى على آسيا الوسطى وجنوب القوقاز التي باتت تشكل أهمية جيو-اقتصادية كبيرة لأمن الطاقة وأنابيب النفط واستدامة توريد اليورانيوم.

ترى كل من إيران وتركيا، أن لهما مصالح لا يمكن التنازل عنها في منطقة تعتبرها طهران وأنقرة «الحديقة الخلفية» ومساحة للنفوذ التاريخي عبر الثقافة والتاريخ واللغة المشتركة بين إيران وتركيا من جانب وشعوب هذه الدول من جانب آخر، فالدول التي تتحدث التركية هي أذربيجان وأوزباكستان وكازاخستان وقرغيزستان وتركمانستان، بينما تتحدث طاجيكستان اللغة الفارسية، أما روسيا المنخرطة منذ عامين في الحرب مع أوكرانيا بدأت تعاني من رغبات بعضهم في الابتعاد عنها للتقرب أكثر إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، بينما تعمل الصين وفق مبدأ «الدبلوماسية الناعمة» التي تقوم على التعاون الاقتصادي للحفاظ على مصالحها مع منطقة تضم 3 دول تقع على حدود «التنين» وهي كازاخستان وطاجيكستان وأوزباكستان، فكيف يمكن «إدارة التنافس» بين القوى الإقليمية والدولية على جنوب القوقاز وآسيا الوسطى؟ وكيف تنظر كل من واشنطن وبروكسل وبكين وموسكو وطهران وأنقرة لهذا التنافس؟ وإلى أي مدى يمكن للعالم العربي أن يكون «جسراً للتواصل»، واكتشاف «المساحات المشتركة» بين كل هؤلاء الأفيال المتنافسين والمتصارعين على «رقعة الشطرنج» الجديدة في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز؟

  • قلب العالم

تشكل هذه المنطقة «قلب العالم»، وتضم 8 دول، منها 3 جمهوريات في جنوب القوقاز هي أذربيجان وأرمينيا وجورجيا، و5 دول في آسيا الوسطى هي كازاخستان وطاجيكستان وأوزباكستان وتركمانستان وقرغيزستان، وتبدأ هذه المنطقة الشاسعة من حدود الصين شرقاً حتى البحر الأسود غرباً، وتلامس حدود الصين وروسيا وإيران وتركيا وأوروبا الشرقية، وتشكل هذه البقعة الشاسعة «الحديقة الخلفية والاستراتيجية» لروسيا، كما تعد «بوابة الصين» على الشرق الأوسط والخليج العربي والعالم الغربي. وإضافة إلى الثروات المعدنية الهائلة، تمثل هذه المنطقة جزءاً رئيسياً من «الأمن العالمي للطاقة» التي تأتي من بحر قزوين وكازاخستان وأذربيجان، والتي تستطيع أن تكون بديلاً للغاز والنفط واليورانيوم الروسي، ناهيك عن طريق «الممر الأوسط الشمالي» الذي حل محل الطريق الذي كان يربط بين الصين وآسيا الوسطى وصولاً إلى أوروبا، وتوقف بعد اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية، ويعمل طريق «الممر الشمالي الأوسط» من الصين شرقاً مروراً بكازاخستان ثم بحر قزوين، ويصل إلى البحر الأسود وأوروبا عبر أذربيجان وتركيا، وهناك أفكار كثيرة لربط هذه المنطقة بطريق جديد من بحر قزوين للهند، كما تراهن الولايات المتحدة على خط الغاز الجنوبي «شاه دنيز 2» القادم من أذربيجان إلى تركيا، ومنها يتصل بشبكة الغاز الأوروبية في بلغاريا أو رومانيا.

  • حسابات العالم التركي

ترى تركيا، منذ تفكك الاتحاد السوفييتي السابق، أنه آن الأوان لإحياء الروابط التي تربط بينها وبين ما تسميه «العالم التركي»، أي الدول الناطقة بالتركية مثل أذربيجان في جنوب القوقاز، وكازاخستان وقرغيزستان وأوزباكستان وتركمانستان في آسيا الوسطى، ولهذا أسست «منظمة الدول التركية» عام 1992، والتي تحولت إلى «اتحاد الدول التركية»، بداية من عام 2009 ثم إلى «منظمة الدول التركية» في القمة التاسعة لهذا التجمع، والتي عقدت في عام 2021، وتنظر تركيا إلى هذا التجمع على أنه يعزز موقفها ليس فقط أمام النفوذ الروسي والصيني في المنطقة، بل يضيف إلى دورها في حلف دول شمال الأطلسي «الناتو»، ويُقرّبها أكثر من الولايات المتحدة التي تدعم فكرة التقارب بين أنقرة والشعوب الناطقة بالتركية في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، ولهذا تحاول واشنطن دعم أنقرة للتغلب على التحديات الكبيرة في تلك المنطقة، مثل الإرهاب العابر للحدود، خاصة من تنظيمي داعش والقاعدة، والذي يؤثر سلباً في استقرار دول العالم التركي، كما تسعى أنقرة إلى «تصفير المشاكل الحدودية» بين أطراف «منظمة الدول التركية»، خاصة المشاكل بين أوزباكستان وتركمانستان وطاجيكستان وقرغيزستان، ناهيك عن الخلافات التي لا تنتهي بين أرمينيا وأذربيجان، وتهدف أنقرة من كل ذلك إلى تعزيز السلام والاستقرار بين هذه الدول خاصة في مجالات التجارة والاستثمار والتنسيق الأمني والاستخباراتي، اعتماداً على ما يجمع هذه الدول معاً من هوية ولغة وقواسم مشتركة.

تركيا ترى أيضاً أنها تستطيع أن تكون ليس فقط لاعباً إقليمياً، بل لتصبح لاعباً دولياً، اعتماداً على تحالفها مع العالم التركي الذي يضم نحو 150 مليون نسمة يعيشون على مساحة شاسعة تصل إلى 4.5 مليون كلم، وناتج إجمالي يصل إلى نحو 1.5 تريليون دولار، ويسهمون في التجارة العالمية بأكثر من 550 مليار دولار، وهي مصالح كبيرة تجعل أنقرة ترفض التنازل عن أهدافها في تلك المنطقة لأي طرف إقليمي أو دولي يمكن أن يؤثر سلباً في المصالح التركية، سواء في آسيا الصغرى أو جنوب القوقاز، وفي سبيل ذلك تشجع تركيا على توثيق العلاقة بين دول وشعوب العالم التركي عبر سلسلة من الخطوات، منها على سبيل المثال: التوصل إلى اتفاقية النقل الدولي المشترك للبضائع لتسهيل النقل بين هذه المجموعة، والعمل المستمر لتشغيل «ممر زانغيزور» الذي يصل بين باكو في أذربيجان وتبليسي في جورجيا، وصولاً إلى السواحل التركية على البحرين المتوسط والأسود، ويصب ممر زنغيزور في مصلحة تركيا، لأنه يزيد روابطها بالقوقاز وبحر قزوين عن طريق المساهمة الفعالة في نقل البضائع بالسكك الحديدية والطرق، وهو ما يعني زيادة التجارة من بكين شرقاً إلى لندن غرباً

لكنّ أنقرة تنظر وتراقب من بعيد تعاظم الدور الصيني الذي يحظى بالمقبولية الشديدة في تلك المنطقة، كما أنها تبحث عن مساحة مشتركة مع اللاعبين الآخرين في تلك المنطقة، خاصة روسيا، ووفق رؤيتها مع المصالح الأمريكية ورؤية الاتحاد الأوروبي وحلف «الناتو».

  • قلق إيراني

تنظر طهران بعين القلق للتطورات الأخيرة في جنوب القوقاز وآسيا الوسطى، خاصة بعد أن آلت نتائج الحرب بين أذربيجان وأرمينيا لصالح أذربيجان، حيث سيطرت أذربيجان بالكامل على «إقليم ناغورنو كاراباخ» دون أي تدخل من حكومة يرفان أو قوات حفظ السلام الروسية، وتخشى طهران أن تقود سيطرة أذربيجان على إقليم ناغورنو كاراباخ إلى تهديد حدودها في «ممر زانغيزور» الذي يربط أذربيجان بتركيا، وهناك خلاف في الرؤية الإيرانية لهذا الممر عن الرؤية التركية التي تقول إن «ممر زانغيزور» يعزز الروابط بين دول القوقاز وبحر قزوين.

ليس هذا فقط.. فالأوضاع داخل أرمينيا نفسها تتطور في غير صالح إيران، لأن سياسة رئيس الوزراء الأرميني الحالي نيكول باشنيان تميل إلى الولايات المتحدة وحلف الناتو أكثر بكثير من سعيه للحفاظ على العلاقة التاريخية مع روسيا حليفة إيران في المنطقة، وتجلى هذا بوضوح في السجال الأرميني الحالي حول مدى أهمية قوات السلام والأسلحة الروسية، ورفض أرمينيا إجراء مناورات عسكرية مع روسيا، وفي ذات الوقت قبلت إجراء مناورات «إيجل بارتنر» مع الجيش الأمريكي، وتراقب طهران بقلق التعاون بين أذربيجان وإسرائيل، وتخشى أن تقترب إسرائيل من الحدود الإيرانية، انطلاقاً مع أذربيجان التي أقامت علاقات دبلوماسية مع إسرائيل منذ عام 1991، وافتتحت سفارتها في تل أبيب في مارس 2023، ويساور طهران القلق من تنامي العلاقات الإسرائيلية مع دول آسيا الوسطى التي تقيم علاقات أمنية واستخباراتية مع إسرائيل، للحصول على مساعدة تل أبيب ضد الجماعات الإرهابية في آسيا الوسطى.

وليست إسرائيل فقط هي مصدر القلق لإيران، فالولايات المتحدة وحلفاؤها من الاتحاد الأوروبي و«حلف الناتو»، يعملون بكل قوة من أجل تثبيت أقدامهم في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، مستغلين في ذلك الانشغال الروسي بالحرب في أوكرانيا، وتخشى طهران بشكل خاص التحول الكبير من الرأي العام في تلك المنطقة، خاصة لدى الأجيال الشابة، والتي تتحول تدريجياً لصالح نمط الحياة الغربية.

  • الدب الروسي

كانت جميع دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز الثمانية جزءاً من الإمبراطورية السوفييتية، ولا تزال روسيا تحتفظ بروابط ثقافية وأمنية وعسكرية مع كافة هذه الدول، وتحاول أن تبقي على هذه العلاقات عبر مجموعة من الأدوات مثل «الاتحاد الاقتصادي الأوراسي» الذي يضم بجانب روسيا كلاً من كازاخستان من آسيا الوسطى، وأرمينيا من جنوب القوقاز.

عسكرياً أسست موسكو «منظمة الأمن الجماعي» التي تضم مع روسيا كلاً من طاجيكستان وكازاخستان وأوزباكستان وقرغيزستان وأرمينيا وأذربيجان، ورغم الروابط الأمنية والاقتصادية لروسيا مع كل هذه الدول، والدعم الذي تتلقاه موسكو من كل من بكين وطهران في تلك المنطقة، لكنها تواجه سلسلة من التحديات، خاصة بعد الحرب الروسية الأوكرانية، بعد رفض العديد من دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز عبور الجيش الروسي إلى شرق أوكرانيا في 24 فبراير 2022، كما يتراجع النفوذ الروسي في تلك المنطقة لصالح زيادة الحضور والزخم الأمريكي والأوروبي، وهو ما يمكن وصفه بصراع روسي غربي، حيث تسعى روسيا للحفاظ على مكانتها التاريخية والثقافية، بينما ترى الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي، أن التوقيت مثالي لطرد روسيا من جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.

  • الدبلوماسية الاقتصادية للصين

تعد منطقة آسيا الوسطى وجنوب القوقاز من أهم المناطق والأقاليم للصين، حيث تخرج التجارة الصينية للغرب من الحدود الشمالية الغربية للصين عبر تلك المنطقة حتى تصل إلى أوروبا، وتعد دول جنوب القوقاز وآسيا الوسطى الطريق الطبيعي لممر «الحزام والطريق» الذي أطلقه الرئيس شي جينبينغ منذ عام 2013، وتراهن عليه بكين لتعزيز تجارتها الدولية وحضورها العالمي، ورغم أن روسيا تعد منافساً تقليدياً للصين في هذه المنطقة، فإن الصين باتت لا تخشى النفوذ الروسي بقدر خشيتها تصاعد نفوذ حلف الناتو والولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وعملياً تصطف الصين بجانب روسيا وإيران لمواجهة الولايات المتحدة وحلف الناتو والاتحاد الأوروبي وتركيا، فالنظرة التركية لإقليم «شينجيانج» أو «تركستان الشرقية» الذي ينحدر سكانه من العرق التركي العثماني تقلق الصين التي تواجه تحديات أخرى في تلك المنطقة، أبرزها الجماعات الإرهابية التي تناهض بكين، لكن الصين وجدت في «الأدوات الناعمة» و«الدبلوماسية الاقتصادية» وسيلتها لتعزيز دورها في آسيا الوسطى وجنوب القوقاز دون أن تصطدم مع أي قوة هناك سواء كانت إقليمية أو دولية.

  • الناتو وأمريكا

تستغل الولايات المتحدة الأمريكية وحلف الناتو الانشغال الروسي بالحرب الأوكرانية لتعزيز موقفهما في جنوب القوقاز ودول آسيا الوسطى، وتحتل تلك المنطقة مكانة حيوية في الاستراتيجية الأمريكية واستراتيجية «حلف الناتو»، لأن الوجود في تلك المنطقة يعني أن الولايات المتحدة «تبقي عيناً» عن قرب على منافسيها الدوليين والإقليميين، مثل روسيا والصين وإيران، ولهذا دفعت الولايات المتحدة دول الاتحاد الأوروبي لمزيد من الاستثمارات الأوروبية في هذه المنطقة، كما تدعم واشنطن بشكل كامل وبلا أي شروط أجندة أنقرة وتل أبيب في هذه المنطقة، وترى أن زيادة النفوذ التركي والإسرائيلي في تلك المنطقة يأخذ من النفوذ الروسي والصيني والإيراني لصالح الوجود الأمريكي الذي بدأ شراكة مع دول المنطقة تعتمد على التعاون الأمني والعسكري، ودعم وصول النفط والغاز واليورانيوم والمعادن النادرة من تلك المنطقة إلى الولايات المتحدة أو حلفائها في الاتحاد الأوروبي.

أما «حلف الناتو» فيرى أن له مستقبلاً كبيراً في تلك المنطقة، فمنذ انضمام رومانيا وبلغاريا إلى الحلف عام 2004 بدأت أنظار الناتو تتجه إلى دول جنوب القوقاز، ومنذ عام 2008 كانت كل من جورجيا وأوكرانيا تطالب باللحاق بحلف «الناتو»، وأثمرت مطالب جورجيا للانضمام إلى الناتو قيام الحلف بداية من عام 2016 بتقديم الدعم العسكري واللوجستي لجورجيا التي تلقت مساعدات عسكرية تزيد على 350 مليون دولار من الولايات المتحدة. ومنذ سيطرة روسيا على شبه جزيرة القرم عام 2014، بدأت التدريبات العسكرية بين جورجيا و«حلف الناتو» الذي أقر مجموعة جديدة من أدوات التعاون العسكري مع جورجيا في قمة الحلف بمدريد عام 2022.

المؤكد أن الدول العربية، وخاصة الخليجية، تملك رصيداً كبيراً من التعاون الثقافي والاقتصادي مع دول آسيا الوسطى وجنوب القوقاز، كما تملك علاقات طيبة مع كافة اللاعبين في هذه المنطقة بما يؤهلها لتكون «جسراً للتواصل»، لخلق مساحة مشتركة بين كل الأفيال الإقليمية والدولية التي تتنافس على جنوب القوقاز وآسيا الوسطى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/92ht83p9

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"