الشارقة: جاكاتي الشيخ
يشتهر ابن دريد كمعجمي مؤلف للكتاب المعروف «جمهرة اللغة»، ويحل هذا القاموس الشامل للغة العربية في المرتبة الثانية من حيث الشهرة بعد معجم «العين» للفراهيدي، وأَبُو بكر محمد بن الحسن بن دريد البصري الأزْديّ المولود سنة 223ه / 837م والمتوفي في سنة 321ه / 933م، هو شاعر وعالِم بارع في اللغة والأدب وأخبار العرب وأنسابهم، حتى قيل عنه في عصره: «إنه أعلم الشعراء وأشعر العلماء»، وكان من بين أساتذته أبو حاتم السجستاني، وأبو الفضل العباس الرياشي، وعبد الرحمن بن عبد الله والزيادي.
عندما هاجم الزنج البصرة وقُتل الرياشي عام 871م، فر ابن دريد إلى عمان، حيث يقال إنه مارس مهنة الطب على الرغم من عدم تبقي أي أعمال معروفة في العلوم الطبية من تأليفه، قبل أن ينتقل إلى بلاد فارس، حيث صار تحت حماية والي الأحواز عبد الله الميكالي وأبنائه، وقدّم لهُ كتابه العظيم جمهرة اللغة سنة 297 ه، وكتب حينها أعماله الرئيسية وتقلد ديوان فارس، ويُذكر أنه كان سخياً لا يمسك درهماً ولا يرد محتاجاً، ثم عاد بعد ذلك من الأحواز إلى البصرة ومنها إلى بغداد، وأنزله علي بن محمد الجواري بجواره وأكرمه، وتلقى معاشاً شهرياً مُعتبراً من الخليفة المقتدر بالله، دعماً لأنشطته الأدبية التي استمرت حتى وفاته.
أثنى كثير من العلماء على ابن دريد، حيث قال أبو الطيب اللغوي: «ابن دريد انتهى إليه علم لغة البصريين وكان أحفظ الناس، وأوسعهم علماً، وأقدرهم على الشعر، وما ازدحم العلم والشعر في صدر أحدٍ ازدحامهما في صدر أبي بكر بن دريد»، وتتلمذ على يديه العديد من العلماء والأدباء، منهم أبو الفرج الأصفهاني وأبو الحسن المسعودي وأبو عبيد الله المرزباني، وفي سن التسعين أصيب بشلل جزئي إثر إصابته بجلطة دماغية، ولكنه استمر في التدريس.
وضع أربعين مقامة كانت هي الأصل لفن المقامات، ويقال إنه ألف أكثر من خمسين كتاباً من أهمها: «المقصورة» و«كتاب الاشتقاق»، وكتاب «جمهرة اللغة» وهو كتاب عن علم اللغة، أو معجم للغة العربية.
لهجات
ينظر إلى كتاب الجمهرة في اللغة بأنه واحد من أمهات كتب اللغة العربية، فهو من أهم المراجع التي اعتمد عليها مؤلفو المعاجم بعده، وقد احتوى على مختلف لهجات العرب، ولم يهمل الدخيل والمعرب، غير أنه لم يحظ بالانتشار الواسع، بسبب صعوبة وتعقيد أسلوبه النخبوي، ما جعله ينال عناية بعض علماء اللغة، فعَمَدوا إلى عمل فهارس مفصلة بمحتواه ليسهل الانتفاع منه، وأجروا حوله العديد من الدراسات، من أهمها: «فائت الجمهرة» لأبي عمر الزاهد، و«جوهرة الجمهرة» للصاحب بن عباد وهو مختصر للجمهرة، و«نشر شواهد الجمهرة» لأبي العلاء المعري.
وقد قال ابن دريد في مقدمة كتابه معللاً سبب تسميته بالجمهرة: «وإنما أعرناه هذا الاسم لأننا اخترنا له الجمهور من كلام العرب وأرجأناه الوحشي والمستنكر»، فاعتمد في المَتن إيرادَ اللفظ الشائع وليس الغريب النادر، حيث أفرد للنوادر من الألفاظ أبواباً ملحقة في آخر الكتاب، وقد كان غرضُه تصفيةَ اللغة من الشوائب واستبعاد بعض ألفاظها، ولذلك ذكر أبو منصور الأزهري أن ابن دريد لم يُورِد في معجمه من الألفاظ إلا ما صح سماعه.
وبالرغم من تأثير كتاب «العين» للفراهيدي في المعاجم التي ألفت بعده - بما فيها كتاب الجمهرة – إلا أن منهج ابن دريد في الجمهرة يختلف عن منهج الخليل، حيث اعتمد ابن دريد النظام الألفبائي أساساً لترتيب ألفاظ معجمه، ويتضح من مقدمته أنه قصد هذا المنهج وفضله على منهج مخارج الحروف المعتمد في كتاب العين، كما رتّبه على أساس الأبنية، فالألفاظ عنده ثلاثية ورباعية وخماسية، ثم تبنى نظام التقاليب الذي ابتدعه الخليل في العين على حسب مبدأ الاشتقاق، لأن غالبية ألفاظ العربية من الثلاثي، فمثلاً: كلمة (بقل) أورد تقاليبها (قلب، لبق، قبل، بلق)، ويبدأ كل باب بالكلمة التي تبدأ بالحرف المعقود له الباب، يليه الحرف الذي بعده في الترتيب الألفبائي، فباب الباء يصدره مع التاء وباب التاء مع الثاء، وعندما يبلغ باب الراء يذكر الأصول التي تبدأ بالراء فزاي، مثل: (رزم، رزق)، ثم ذكر الأصول التي تبدأ بحرف الراء فحرف السين، مثل: (رسغ، رسف، رسل)، ولكنه لا يذكر في هذا الباب (ربح) لأنه ذكرها في (جرح)، وجعل للفظ الثلاثي والرباعي والخماسي ملحقات، فالمعجم مقسم عنده إلى الثنائي المضاعف وما يلحق به، فالثلاثي وما يلحق به...، وقد بدأ بباب الثنائي الصحيح، وبعد ذلك يأتي الجزء الآخر من المعجم ويتضمن أبواب الثلاثي الصحيح وما تشعب منه ويضم معظم ألفاظ المعجم. طبعت «جمهرة اللغة» لأول مرة من طرف زين العابدين الموسوي والمستشرق كرنكو في حيدر آباد بالهند سنة 1926م في ثلاثة مجلدات من القطع الكبير وفي نحو 1500 صفحة، إضافة إلى مجلد يزيد على نصف حجمها يحتوي على فهارس مفصلة لمحتواها.
