مَن رمى للشعراء العرب بقشور الموز فتزحلقوا؟ يجب المشي على البيض، «بحنيّة لا يقوم زلزال»، فالشعراء هم من وضع حجر أساس الثقافة العربية منذ الجاهلية. كانوا، إلى أحمد شوقي، ينفّذون الأوامر العريقة بمثقال الذرّة، فيستهل الشاعر القصيدة بالغزل: «ريمٌ على القاع بين البان والعَلَمِ.. أحلّ سفك دمي في الأشهر الحُرُمِ»؟ يقيناً، أستاذ الأدب يستطيع أن يشرح لطلابه: إن سفك الدم في الأشهر الحرم يشبه قصف غزّة في وقفة عرفات وعيد الأضحى، والشهر الفضيل.
لكن، ما قصة الانزلاق؟ يجب الاعتراف بأن لغتنا لم تعد تؤخذ على محمل الجدّ. صار أتباع الخواجات يصوّرون لنا أن النحو والصرف والبلاغة، «دقّة قديمة». لم يحفظوا من كل ما قاله الناقد الفرنسي رولان بارت إلا تنديده بالبلاغة، «لأنها تُبعد المرء عن الصور الحقيقية للأشياء». هذا في السياسة ممتاز.
في عصر فيزياء الكمّ، هل ينبغي للشعراء التعامل مع الشعر مثلما كان يفعل الأوّلون؟ لقد انقلبت المفاهيم، أو اعتدلت، كما تشاء. فليسمح أهل الشأن برأي عابر. اليوم ما نراه هو أن مستوى اللغة هبط منسوبه لدى جلّ الشعراء. عدد منهم أمسوا يمسرحون الأداء الشعري، بالتلوين التلحيني والحركات البهلوانية، مثل المغنّين الذين يستعملون مؤثرات الرقص والأزياء، للتغطية على مشكلات الصوت ومساحته وشوائب الأداء، وتمسي قدرات الهندسة الصوتية ستّارة العيوب.
ليس المطلوب من الشعراء الإعجاز. على الشاعر أن يدرك استحالة الانفصال عن عصره. إذا كانت الفلسفة تتلخص في سؤالين: من أنا؟ وما هو محيطي؟ فإن على الشاعر اليوم أن يكون له إلمام بأدبيات علوم الكون والأرض. ما معنى أن تكون اليوم شاعراً في عصر المعلوماتية وحواسيب الكمّ والذكاء الاصطناعي، والعلوم العصبية وفيزياء الجسيمات؟ صار على من يريد الكلام في التاريخ، أن يضع في الحسبان عشرين علماً مرتبطاً بفحص الماضي.
كيف سيتعامل الشعراء مع الحياة المتحوّلة؟ لقد انتهت المسيرة الشعرية الاستنساخيّة للتراث بكلاسيكيّة معاصرة، غير عصريّة بالضرورة، الجواهري والبردوني نموذجاً. طُويت صفحات القدرات اللغوية التراثية. انخفض منسوب كفاءاتها، ولم يرتفع البديل الحديث. انهيار الموازين الموسيقية والإيقاعية في الشعر مأساة. موسيقى الشعر لا تحسم معاييرها جعجعة النقد الأدبي. الاختباء وراء خُدع مثل الإيقاع الداخلي، حيل باطلة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الإشكالية: لا نهاية لتاريخ الشعر، لكن ماذا في اليوم التالي لخروج الشعر العربي من غرفة الإنعاش؟
