قيمة الغفران

04:18 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

يحتاج العالم إلى آلاف النماذج من شاكلة السيدة العراقية جنة عزت التي سامحت قاتل ابنها في مذبحة مسجدي «النور» و«لينوود» في نيوزيلندا خلال العام الماضي. تمتلك هذه السيدة شجاعة مضاعفة، فهي لم تفقد ابنها وحسب، ولكنها نجت من المجزرة أيضاً؛ أي أنها عانت ربما لأشهر طويلة، وقائع قتل جماعي مرعبة شهدتها بنفسها، وبقوة تحسد عليها قالت خلال محاكمة منفذ المذبحة اليميني المتطرف برنتون تارانت: «لدي خيار واحد فقط وهو أن أغفر».
ما فعلته هذه السيدة أهم من عشرات المؤتمرات والندوات وحلقات النقاش التي تبحث في كيفية تحسين صورة الإسلام في الغرب، حيث قالت للقاتل أيضاً: «نقول في ديننا الإسلامي، نحن قادرون على أن نغفر.. ونغفر». لقد قدمت مثالاً نادراً في التسامح، خاصة ونحن نعرف ما تثيره المجازر من حساسيات وما تؤدي إليه من أصوات متشنجة لا هم لها إلا المطالبة بالثأر، وسط الأقليات. والملاحظ أيضاً خلفية تلك السيدة التي نعلم عنها عدة معلومات ضئيلة، هي مهاجرة عراقية إلى نيوزيلندا في عام 1997، تركت بلدها بحثاً عن حياة أفضل في أرض جديدة تتعدد وعودها بالحرية والمساواة والعيش الكريم لكل البشر من دون تمييز بسبب العرق أو اللون أو الدين؛ أي أن مأساتها مضاعفة، ومن الطبيعي أن يهيمن عليها إحساس بالظلم ويمتلئ قلبها بالثأر، ولكنها فعلت العكس تماماً. لقد غفرت للقاتل.
الغفران ثقافة متكاملة، فعندما نختاره فنحن لا نتنازل عن حقوقنا تجاه من ظلمنا وحسب، ولكننا نصفح عن أخطاء منظومة فكرية ومجتمعية متكاملة. جنة عزت لم تسامح تارانت بمفرده، ولكنها طهرت قلبها أولاً من وعود المهجر المخادعة، فثقافة المجتمعات هناك لا تساوي بين البشر على اختلاف هوياتهم، وطهرت ذاكرتها ثانياً ربما من جماعات متطرفة تشبه جماعة تارانت عرفتها في العراق، ولكن أفكار تلك الجماعات لاحقتها في طبعة ثانية في نيوزيلندا، فالتشدد لا وطن أو دين له، ولا يمكن مواجهته إلا بكشف زيفه وقبحه، وهذه المواجهة تحتاج إلى آليات عدة يأتي في مقدمتها نشر ثقافة التسامح، وشجاعة الغفران التي تظهر تهافت التطرف وضعف منطقه.
في أماكن كثيرة في العالم الآن حالة من التشنج، تعود لأسباب عرقية أو لونية.. والبعض يفتحون الدفاتر القديمة، ويعيدون قراءة تاريخ طويل من الظلم وإهدار الحقوق، ولا يكتفون بإشكاليات الراهن فيمتدون بغضبهم إلى الماضي، وكأن في قلب كل منهم طالب ثأر، والبعض الآخر يمارس الإقصاء الفكري، وينسى الجميع درساً بسيطاً قدمته لنا تلك السيدة المفجوعة في ابنها، حيث لا نجاة لنا جميعاً إلا بالغفران.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"