العقل العربي يصدأ

03:24 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

المتابع للحالة العربية بإمكانه أن يلحظ بسهولة تلك العطالة الفكرية التي نعيشها منذ أكثر من عقدين، فلا توجد أي أطروحة نتحاور حولها، ولا توجد أي قضية نختلف في أصولها وفصولها، وكأن الهم الفكري غائب.

لم تعرف الساحة العربية ذلك الصمت الفكري الطويل منذ القرنين الأخيرين على الأقل. قبل مرحلة الاستقلال الوطني في النصف الثاني من القرن العشرين كانت قضايا التقدم وأسئلة من قبيل: ماذا نأخذ وماذا نترك من الغرب؟ وكيف ننخرط في ثقافة العصر؟ مطروحة باستمرار وبصورة يومية.

في الخمسينات والستينات دار نقاش طويل يتعلق بمقولات اليمين واليسار في السياسة والمجتمع والاقتصاد، صاحبته معارك بين الحداثيين والكلاسيكيين في الفنون والآداب..الخ، وفي السبعينات والثمانينات صدرت عشرات الكتب التي حللت بنية الفكر الديني المتطرف، وتعاطت مع قضايا التراث من مختلف وجوهها، وفي التسعينات سادت مقولة «نقد العقل العربي» لمحمد عابد الجابري، وخصص البعض لها دراسات أكاديمية وقراءات واسعة في الصحف اليومية والمجلات الدورية، بل إن جورج طرابيشي تفرغ سنوات لقراءة تاريخنا وتراثنا حتى يستطيع نقد آراء الجابري الجدلية.

الآن حالة من السكون المطبق، لا نعرف أسبابها، هل تعود إلى قناعة بأن هذه القضايا غير قابلة للحل حتى ولو على المستوى النظري؟ أم إلى مناخ راهن لا يلتفت إلى المسائل الفكرية؟ أو ربما ترك مفكرونا ساحتهم لمدوني مواقع التواصل، لتلك المقتطفات السريعة المأخوذة من هذا الفيلسوف أو ذاك، أو هم يتأملون من بعيد تلك المواقع ليخرجوا علينا يوماً بقراءة فلسفية ترصد التحولات العميقة التي يعيشها الجميع نتيجة لتأثير تلك المواقع.

الواقع أن كل هذه القضايا، وغيرها، ما زالت معلقة، بل مؤرقة، وإعادة التعاطي معها، حتى ولو كان الكثيرون يعتقدون بعدم جدوى ذلك، أفضل بكثير من العطالة الفكرية الراهنة، فضلاً عن إشكاليات عديدة تواجهنا الآن وتحتاج إلى التحليل الرصين.

لقد حذر البعض منذ سنوات من مستقبل ستتحول فيه التكنولوجيا إلى أيديولوجيا، بكل ما تتضمنه هذه الأخيرة من ألاعيب سياسية وجماعات ضغط وأصحاب مصالح بما ينعكس بالإيجاب أو السلب على قرارات الحكومات وصراعات الدول، ونحن الآن نعيش مقدمات هذا المستقبل، ومع ذلك لا نعثر على تلك الكتابات العربية الموزونة التي تتطرق إلى أبعاد ما يحدث، أم أن الإحجام عن التفكير في هذا الموضوع يعود إلى أننا لا ننتج تكنولوجيا؟ كما يحلو للبعض أن يقول ساخراً عند التطرق إلى هذه المسألة.

هنا سنكون بمثابة من لا يفكر في قضاياه الخاصة، ولا يشارك العالم أطروحاته، ولا يمكن في هذه الحالة إلا الشعور بالأسى تجاه زمن عربي قادم سيصدأ فيه العقل.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"