قريباً من وجع الرأس

02:09 صباحا
قراءة دقيقتين
يحيى زكي

يعود جزء كبير من الصراع بين البشر إلى الدخول في التفاصيل، فنحن عندما نتحدث بطريقة عامة، غير محددة، سنصل إلى نتائج توافقية ترضي معظمنا، تلك الظاهرة تنطبق على كل مجالات النشاط الإنساني: الثقافة، الفكر، السياسة، والمجتمع.

لنأخذ مثلاً مفهوم النقد، لا يوجد من يرفض ذلك المفهوم، بل العكس هو الصحيح تماماً، لا يمر يوم إلا وتتعالى الأصوات المطالبة بالنقد، ويتحسر البعض على الأحوال المتردية التي تحتاج إلى مراجعة الذات لعلاج مختلف المشكلات، ويردد البعض الآخر بنبرة انفعالية: كل شيء قابل للنقد، ولكن ما يسكت عنه الجميع، هو نوع النقد المطلوب، مناهجه وأدواته، حدوده ورؤيته، فكثيراً ما تورط هذا الباحث أو ذاك المفكر في «نقد حقيقي» وتعرض إلى مشكلات لا نهاية لها، وانتهى إلى قناعة بأن المطالبة بالنقد ليست أكثر من دعوة لا محل لها من التطبيق في أرض الواقع، ولذلك وبعد تجارب عدة وأزمات لا نهاية لها توقف النقد الحقيقي في العالم العربي، فالأمور تسير من دون تقييم: في الفن والأدب والفكر والممارسات الاجتماعية..الخ.

المفهوم الأبرز في هذا الإطار، والعابر للثقافات والمثير للجدل دائماً، هو الديمقراطية، فربما لا يوجد نظام، مهما رآه الآخرون مستبداً، لم يتشدق بهذه الكلمة السحرية والخلابة، حتى أصبح مفهوماً ضبابياً ملتبساً، فكلنا نردده، ويحلم البعض به، ولكن ماذا تعني الديمقراطية على وجه الدقة؟ لقد قدمت عشرات التفسيرات والتحليلات لهذا المفهوم بل والتجارب الواقعية التطبيقية، ومع ذلك ظل المفهوم عصياً على الاستيعاب.

مفاهيم أخرى عديدة تحولت بفعل الخلافات التي أثارتها إلى مجرد كلمات لم تعد في جوهرها الاصطلاحي تثير شغف أحد أو تدفعه إلى التفكير لكي يخرج برؤى جديدة حول ذلك الجوهر. نقابل تلك المفاهيم بالصمت، وكأنها تحيل إلى المعنى نفسه الذي يقصده الآخرون، وفي داخلنا ينبت شعور باللاجدوى، إذا فكرنا مرة في طرح المفهوم للنقاش، حيث إننا لن نصل إلى حد أدنى من التوافق بين جميع الأطراف، أو نستخلص أفكاراً مغايرة للسائد. خذ مثلا مفهوم «المثقف»، أو«الليبرالية» أو «العقل» أو «التراث».. إلى آخر تلك السلسلة المراوغة من المفاهيم التي نرددها صباحاً ومساء، كل من منطلقه الخاص جداً. ففي النهاية، هو لا يعبر إلا عن نفسه، لا يكتب إلا لذاته، وهي ظاهرة تثير أسئلة لا نهاية لها تتعلق بقدرتنا على الحوار الصحي، وتقبلنا للتوافق مع المختلف في الرأي، و الأهم والأخطر تلك الساحة العربية التي توقفت منذ عقدين على الأقل عن التفكير الجاد، وكأنها قررت الاستمتاع بإجازة طويلة بعيداً عن وجع الرأس.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"