الإعلام العالمي والحرب على غزة

04:18 صباحا
قراءة 4 دقائق
لطالما كانت الحروب الاعلامية جزءاً لا يتجزأ من الصراعات السياسية والعسكرية، بل كثيراً ما خسرت الجيوش والدول في الإعلام ما كسبته في ساحة الوغى فأخفقت في قطف الثمار السياسية لانتصاراتها الحربية . ويقول بريجنسكي والمارشال لاهان إن الولايات المتحدة خسرت حرب فيتنام في الإعلام قبل ساحات القتال .
وقد ركّز الصهاينة الأوائل على "البروباغاندا" فنجحوا في تصوير استعمارهم لفلسطين، لدى الرأي العام الغربي، على أنه استعادة لحق سليب وإحقاق لعدالة إنسانية في حق اليهود المضطهدين والمعذبين . وبعد تأسيس "دولتهم" عملوا على تقديمها كواحة للحرية والديمقراطية في صحراء عربية قاحلة يسودها التخلف والظلم والاضطهاد ويسكنها برابرة يسعون لتدميرها . وبالطبع ادعى "جيش الدفاع "الإسرائيلي"" بأن اعتداءاته المتكررة على العرب ليست سوى حروب دفاعية، أسهمت في ذلك وسائل الإعلام الغربية التي تمتلكها اللوبيات الصهيونية في الدول الكبرى .
صيف العام 1982 شكّل نقطة تحول في غير صالح "الإسرائيليين" . إذ تستخدم للمرة الأولى في تاريخ الصراع العربي "الإسرائيلي" وسائل الإعلام الغربية في حق الجيش "الإسرائيلي" الغازي للبنان عبارات مثل "هجوم بربري" و"نازي" و"همجي" . . . على بيروت المحاصرة تحت وابل من القنابل الجوية والبرية والبحرية . لأسباب مهنية على الأقل، كان من المستحيل على وسائل الإعلام المرئية والمقروءة تجاهل هذا الحدث الذي شغل العالم طوال شهور ستة طويلة والذي تخللته مجازر صبرا وشاتيلا، التي جابت صور ضحاياها من الأطفال والنساء أرجاء العالم الواسع .
وقتها اعتبر المراقبون أنه رغم الانتصار العسكري "الإسرائيلي" في الحرب واحتلال بيروت وإخراج منظمة التحرير الفلسطينية منها، إلا أن الخسارة المعنوية والأخلاقية والسياسية "الإسرائيلية" كانت أكبر بكثير من الانتصار المذكور، وبالتالي خسر "جيش الدفاع" الحرب بمعزل عن الإنجازات الميدانية .
كذلك، فإن صور أطفال الحجارة في انتفاضة الاقصى جابت كل أرجاء المعمورة وتسببت في خسائر معنوية جسيمة للدولة التي تدعي الاهتمام بحقوق الإنسان والديمقراطية . وأضيفت إلى اللائحة السوداء صورة الطفل محمد الدرة الذي استشهد في حضن والده الذي كان يحاول الاحتماء من رصاصات الجيش "الإسرائيلي" وصورة طفل آخر كان يتبارى الجنود الصهاينة في تكسير عظامه بالحجارة، وقد تناقلتها الفضائيات الأمريكية في فبراير/شباط 1988 قبل غيرها، وتلك التي نشرتها جندية "إسرائيلية" على صفحتها في "فيس بوك" عن سجناء فلسطينيين في أوضاع مهينة . وقد دخلت وسائط الاتصال الاجتماعي منذ مطلع الألفية الجارية لتزيد من أهمية الإعلام والاتصال في الصراعات القائمة ولتنقل مشاهد الضحايا الفلسطينيين بشكل متواصل إلى كل مكان في المعمورة، ما قلب رأساً على عقب أسطورة دافيد وغوليات التي كان يستخدمها الصهاينة في الترويج لدولتهم .
من الجانب الفلسطيني والعربي لم يسجل جهد خاص في الحرب الإعلامية وكأن لا حاجة للضحية إلى مثل هذا الجهد كون الإعلام ينقل الحقيقة كما هي، وهذا خطأ جسيم . أما "الإسرائيليون" فلم يوفروا الجهود والاستراتيجيات الاتصالية لإعادة تلميع صورتهم لدى الرأي العام . فعلى سبيل المثال قاموا بتشكيل "لجنة كاهان" للتحقيق في مجازر صبرا وشاتيلا في العام ،1982 والتي قامت باستجواب رئيس الوزراء ووزير الدفاع، الأمر الذي صوروه على أنه نادر الحصول إلا في الديمقراطيات الحقيقية . وتم اعتقال الجنود الذين كانوا يسحقون عظام الفتى الفلسطيني (ليطلق سراحهم بعد وقت قصير من دون ضجيج إعلامي)، كذلك الجندية التي نشرت الصور على فيسبوك . ببساطة يتم اتخاذ إجراء معين يستخدم كمادة تبجيل ومديح للدولة الديمقراطية المؤسساتية، ويجري التركيز على ذلك بالمقارنة مع ما كان يمكن أن يحدث في ظروف مشابهة في دول الجوار، والنتيجة تنتهي في مصلحة المعتدي وعلى حساب المجني عليه .
من الجانب الفلسطيني هناك غياب لمثل هذه الحرفية . فعلى سبيل المثال عندما يتجمع المقاومون الفلسطينيون الملثمون في غزة حول صواريخ القسام أمام الكاميرا التي ستنقل الصورة إلى الإعلام العالمي فهم يسعون لزرع الرعب في صفوف المستوطنين، لكن الدعاية الصهيونية تستخدم هذه الصور لتقنع الرأي العام بأنها تخوض حرباً دفاعية ولا تشن عدواناً على مدنيين .
من ناحية أخرى، فإن سوء طالع الغزاويين اليوم أن مأساتهم لم تعد تحتكر صفحات الإعلام العالمي المشغولة بنقل أخبار وصور الرؤوس التي يقطعها الداعشيون وضحايا السيارات المفخخة في العراق، ناهيك عن الحرب الأهلية الليبية، والقائمة تطول .
لقد برهنت سنوات الصراع الطوال على أنه من الجيد أن يكسب الفلسطينيون الحرب الإعلامية، لكن ذلك ليس كافياً البتة، فالصاروخ أبلغ أنباءً من الكتب . وبعد كل ما خسرته "إسرائيل" إعلامياً في عدوانها الأخير على غزة قال نتنياهو بكل ثقة إنه سوف ينكب على إعادة تلميع الصورة بعد الحرب . إنه مدعوم من اللوبيات ووسائل الإعلام في الغرب ما يمكنه من الشعور بالطمأنينة . لذلك، قالت "الإيكونوميست" يوماً في عددها الصادر في 26 مارس/ آذار 2005 إن لدى "الإسرائيليين" منتجاً مريعاً يحسنون تسويقه، في حين أن العرب يملكون منتجاً جيداً يسيئون بيعه .


د .غسان العزي

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

دكتوراه دولة في العلوم السياسية وشغل استاذاً للعلاقات الدولية والعلوم السياسية في الجامعة اللبنانية ومشرفاً على اطروحات الدكتوراه ايضاً .. أستاذ زائر في جامعات عربية وفرنسية.. صاحب مؤلفات ودراسات في الشؤون الدولية باللغتين العربية والفرنسية.

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"