على الطرف الثاني من المقعد

00:18 صباحا
قراءة دقيقتين

أحياناً يشدّنا اسم مترجم كتاب بمقدارٍ لا يقلّ، إن لم يزد، عن اسم المؤلف، خاصة حين تكون تلك المرة الأولى التي نعرف فيها اسم الأخير، فيما نحن نعرف المترجم جيداً، ونثق بقدراته وتمكّنه لا من اللغة التي ترجم منها، وإنما من اللغة العربية أيضاً التي ترجم إليها.

يحدث هذا معي كثيراً. سأحدثكم الآن عن قصةٍ قصيرة مترجمة قرأتها مؤخراً لكاتبة نيوزيلندية هي كاثرين ماتسفيلد (1888– 1923). عنوان القصة «الآنسة بريل»، وهو اسم بطلتها، التي اعتادت كل يوم أحد الخروج إلى الحديقة العامة المجاورة، حيث تعزف فرقة موسيقية أغاني يحبّها الناس، وإلى الحديقة يأتي زوّار من مختلف الأعمار؛ متقاعدون تقدّم بهم العمر، عشاق في مقتبل العمر، أطفال مع عائلاتهم يستمتعون بفسحةٍ للعب.

ذات أحد أخرجت الآنسة بريل فرواً شتويّاً أخفته في صندوق شهوراً، ووجدت أن الطقس بَردَ بما يكفي لارتدائه. وفيما يشبه المناجاة، راحت الآنسة تخاطب فروّها، متخيلة أنه، وبعد أن نفضت عنه الغبار ثم نظفته بالفرشاة، يسألها بعد طول الغياب: ما الذي قد أصابنا؟ في الحديقة ستختار الآنسة بريل لنفسها مقعداً، منه تشاهد وتسمع الفرقة الموسيقية وهي تعزف وتغني، وتراقب الغادين والرائحين. على الطرف الثاني من المقعد يجلس رجل وامرأة. الرجل شيخ وقور في معطف مخملي يضمّ يديه فوق عصا ضخمة، فيما بدت المرأة عجوزاً بدينة، مستقيمة الظهر في جلوسها. كان لدى بريل شغف بأن تسمع ما يدور من حوار بين الرجل والمرأة التي هي في الغالب زوجته. خيّب الزوجان أمل الآنسة، حيث ظلا صامتين حتى غادرا المقعد.

بعد مشاهدات كثيرة حكتها الكاتبة بعذوبة كبيرة وتشويق آسر، مستعيرة من الآنسة بريل عينيها التي تراقب من حولها المشاهد والناس وتصفان ما ترى. بعد توقف قصير عادت الفرقة إلى العزف في اللحظة التي أتى فيها إلى الطرف الثاني من المقعد الذي جلس عليه العجوزان، فتى وفتاة عاشقان، وفي لحظة شعرا بأن وجود الآنسة الغريبة على الطرف الثاني من المقعد يفسد خلوتهما. سمعت الآنسة بريل الشاب وهو يقول لمحبوبته: «ما الذي يدفعها إلى المجيء هنا؟»، فردّت المحبوبة ضاحكة: «إن الذي يضحكني هو فروها.. إنه يشبه سمكة مقليّة».

عادت الآنسة بريل إلى البيت خائبة. صعدت الدرج ودخلت غرفتها. رفعت الفراء عن عنقها بسرعة، وأعادته إلى الصندوق الذي كان فيه، ولما وضعت الغطاء عليه خُيّل إليها أنها سمعت شيئاً يجهش بالبكاء.

ما حملني على قراءة هذه القصة، بل واقتناء كتاب المختارات القصصية الذي حواها، وعنوانه «أيلول بلا مطر» هو اسم المترجم الذي لا يُقاوم: جبرا إبراهيم جبرا.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2s3zufem

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"