«جوجل».. مصل الحقيقة

00:33 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

ما هي الأوقات التي يتوقف فيها البشر عن الكذب؟ سؤال مستفز، يطرحه الأمريكي سيث ستيفنز في كتابه «الكل يكذب». ففي الكتاب يكّذب الجميع على مدار الساعة في ما يتعلق بأشياء يتعمدون فيها الخداع، أو بأفكار وآراء يؤمنون بها و يعتبرها الآخرون تجانب الحقيقة. وبعيداً عن الاشتباك نظرياً مع تلك الأطروحة، فالكذب إشكالية معقدة تتعلق بالمفهوم نفسه، و يتداخل فيها الأخلاقي بالفلسفي بالمنظومة القيمية للأفراد والمجتمعات، فإن ما يستوقفنا إجابة المؤلف نفسه عن السؤال، فنحن نتوقف عن الكذب، فقط، عندما نجلس للبحث على جوجل.

 لقد وضعنا الإنترنت و مختلف مواقع التواصل على محك النقد، ومن مختلف الاتجاهات، فالمهموم بالمعرفة كان يرى في فيضان المعلومات الذي لم تعرفه البشرية من قبل وتوفره لنا الشبكة العنكبوتية تشتيتاً للذهن؛ بحيث يخرج العقل الباحث في مسألة ما بنتائج متضاربة، أما المحلل الاجتماعي فكان يركز على تلك القيم الفردية الانعزالية التي تترسخ بسبب التكنولوجيا فائقة الحداثة، وكثيراً ما حذر الناقد الاقتصادي من ممارسات سلبية تقوم بها مختلف الشركات للحصول على بيانات الأفراد من مختلف المواقع لكي تكسب المستهلكين. 

 كان الجميع لهم وجهات نظر نقدية في الإنترنت، لكنها تتعلق بالوعي، وإدراكنا للعالم وعلاقتنا به ورؤيتنا له، و لم تصل إلى اللاوعي والمكبوت وما نحتفظ به من أسرار خاصة لا يشاركنا فيها أحد، وجدية أطروحة سيث تتمثل في أن جوجل اخترق تلك المناطق.

 يطلق سيث على جوجل «مصل الحقيقة الرقمي»، فهناك الملايين من عمليات البحث التي يقوم بها البشر لحظياً، وتشكل مادة خام لدراسات علم النفس، نحن أمام «كبسات زر» لا تنتهي وتتعلق: بأمراض وانحرافات نفسية، وعنصرية يعتنقها البعض سراً ويخفونها عن المحيطين، وكراهية تجاه النساء، فضلاً عن مشاكل من كل نوع لا نتحدث عنها علناً، ونفتش عن حلول لها على جوجل، لكن لماذا هذه الثقة في جوجل؟ لأننا نجلس بمفردنا مع إعصار من المعلومات من كل مكان وبكل لغة، لا نشارك أحداً آخر أفكارنا ومشاعرنا، ولا يراقبنا أحد، وبالتالي نتحرر من كل عقدنا ولا نكذب.

 لقد أثار فرويد جدلاً كبيراً عندما اعتبر أن ما نظهر به أمام الناس، الوعي، ما هو إلا قمة جبل الجليد، التي تخفي قاعدة ضخمة من الرغبات والمشاعر التي نريد أن نخفيها، ربما حتى عن أنفسنا، لكن ها هو حلم فرويد يتحقق من دون دراسات أو اختبارات نفسية أو أدوات تحليل مرهقة، فكل نقرة للحاسوب ونحن في حضرة جوجل هناك إحالة ما إلى سماتنا، وما نحبه أو نكرهه. ويخبرنا علم النفس أن ما كنا نكتبه خطأ كان يؤشر إلى جانب ما في شخصيتنا، لكن في الماضي كنا نسارع إلى محو الخطأ أو تمزيق الورقة، أما مع جوجل فالنقرة الخطأ يتم تسجيلها والاحتفاظ بها. فهل تحول جوجل إلى أضخم أرشيف في التاريخ لبيانات تتعلق بالجانب المظلم في نفوس البشر؟

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"