عادي
فاسلاف نجنسكي.. سيرة من المعاناة

راقص الباليه الأشهر يسقط في هاوية الجنون

15:08 مساء
قراءة 3 دقائق
سس

- وصف كولن ولسون مذكراته بالأصدق والأكثر إيلاماً
القاهرة: «الخليج»
«إن عشوائية أفكار فاسلاف نجنسكي، الفنان الروسي بولندي الأصل، في مذكراته، ربما تدفع القارئ إلى ترك الكتاب، بعد قراءة بضع صفحات منه، ولكني أؤكد لكم أنكم ستجدون منطقاً وحكمة تحت قشرة الجنون والعشوائية تلك، إن مذكرات نجنسكي هي الوثيقة الأكثر صدقاً وإيلاماً» هذا بعض ما جاء في كتاب كولن ولسون «اللامنتمي» عن نجنسكي الذي لم يخصص له صفحة واحدة، بل أتى على ذكره في أكثر من موضع، ما جعله ضمن أعلام الكتاب مثل دستويفسكي ونيتشه وكافكا وفان جوخ.
يؤكد هذا الكتاب «مذكرات فاسلاف نجنسكي» ترجمة عماد العتيلي، أن المؤرخين اختلفوا في تحديد العام الذي ولد فيه نجنسكي فمنهم من قرر أنه ولد عام 1889، ومنهم من قرر أنه ولد عام 1890 لكنهم جميعا متفقون على أنه ولد في كييف لأبوين بولنديين في الثاني عشر من مارس، وقد يدرك القارئ سبب آلام نجنسكي وخيبات أمله حين يطلع على سيرة أمه، فقد تيتمت وأخويها وأختيها وهي لا تزال طفلة، وبدأت منذ نعومة أظفارها تعمل راقصة باليه في مسرح وارسو الكبير، وما إن بلغت الثالثة عشرة حتى أصبحت عضوا فاعلا فيه، وأثناء تجوالها مع الفرقة، التقت بتوماس نجنسكي الذي كان راقص باليه هو الآخر، وتزوجا عام 1884، وقد تركها فحملت همها وأطفالها بعد ذلك.
*مصاعب
عرف نجنسكي وهو في زهرة شبابه متاعب الحياة فشهد تعاسة أمه وفقرها، واحتمل صابراً خلال السنوات الثماني التي قضاها في المدرسة الإمبراطورية، حسد وغلظة زملائه، كما احتمل لاحقاً الظلم الذي تعرض له كراقص باليه شاب، فقد كان زملاؤه في الفرقة يعاملونه بعدوانية ولم يحظ بفهم وتقدير أعضاء فرقة الباليه الروسي، كان واعيا بتلك الكراهية لكنه لم يتخل يوماً عن إيمانه بالمحبة والجوهر الإنساني النقي، وإذا به يمضي متسامحاً حتى أتت المذبحة الكبرى (الحرب العالمية الأولى) وأحس بعجزه عن مساعدة إخوانه من بني البشر، فانطوى على نفسه ولم يعد قادراً على فهم الناس.
تقول رومولا زوجته: «في الأعوام التي تلت مرض زوجي كان قدرنا أن نلقى نصيباً كبيراً من قسوة الحياة وتعاستها، وقد عشنا بحق كالغجر الشاردين، خاصة خلال الحرب العالمية الثانية، فكنا نعيش كل يوم ولا ندري أيظلنا سقف في الليل ننام تحته أم لا؟ عندما مرض زوجي نصحني الأطباء بإيداعه في مصحة، لكني خفت وقررت إبقاءه معي في منزلنا حيث أقدر على الاعتناء به، كي يحظى هو بالحرية والسعادة بين أهله، أدركت لاحقا أن الأطباء محقون، فنقلنا نجنسكي إلى المصحة ورافقته هناك».
حاولت رومولا الحصول على أفضل مساعدة ممكنة، وبعد أن استشارت أفضل المختصين، ومن بينهم فرويد ويونج، قررت نقل نجنسكي إلى عيادة في فيينا، حيث تلقى الرعاية عدة أشهر، بعدها انتقلا إلى باريس على أمل أن تعيد البيئة الفنية التي اعتاد عليها له الوعي، لكن دون فائدة وبدل أن يتحسن، انزلق أكثر في هاوية الجنون، وعادا إلى سويسرا، وفي تلك الفترة طلب منها نجنسكي أن تدون أفكاره الفنية، كي يستفيد منها دارسو الباليه.
**وثيقة نادرة
هذه المذكرات هي رسالة نجنسكي للبشرية، وقد نشرت أول مرة عام 1936 وبذلك تحققت أمنيته بأن تنشر المذكرات قبل وفاته، الكتاب وثيقة إنسانية نادرة وما تجرأ أحد من الفنانين الكبار حول العالم على كتابة رأيه في مواضيع حساسة مثلما فعل، لقد دون آراءه الصريحة في وقت كان يعاني تحت وطأة عذاب عقلي شديد، واستطاع رغم ذلك إيصال مشاعره بكل شفافية.
تقول رومولا زوجته: «كتبت هذه المذكرات خلال العامين 1918 و1919 في سان موريتز حيث آثرنا العزلة منتظرين انتهاء الحرب، وكان منعزلاً عن العالم حوله، وبعيداً عن مسارح الباليه، حاول زوجي أن يتواصل مع الجمهور من خلال وسائل فنية أخرى، فلجأ إلى الرسم والموسيقى وألف بضع رقصات، ثم أخيراً كتب مذكراته».
أمضى نجنسكي وقتا طويلا في الكتابة وحاولت زوجته منعه خوفا عليه من التعب، وحين بدأت معركة إنقاذه من السقوط في هاوية الجنون، ظهرت تلك المذكرات في يونيو عام 1934 ولم يكن يهدف إلى حصد شهرة أو مجد، بل إلى نقل رسالة عن طريق الرقص، وكانت مأساته أنه لم يستطع الهرب بروحانيته المرهفة من المصير الذي لابد أن يسقط فيه فتنهشه أنياب المجتمع، لو كان نجنسكي قد حظي بالفهم والمراعاة ممن كانوا حوله لما عانى طويلاً بين فكي العذاب العقلي، الذي اضطره آخر الأمر إلى الانسحاب من العالم الواقعي والتسلل إلى عالمه الخاص.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"