فلسفة التجاوز

00:51 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبدالله السويجي

التجاوز فعل حاضر يتم بناؤه على إنجاز متحقّق، الذي بُني بدوره على إنجاز سابق، بمعنى أن التجاوز هو إضافة للتراكم النوعي بفعل نوعي آخر وفق اشتراطات ومعايير خاصة بمجال الفعل، فإن كان المنجز اقتصادياً فلا بد أن يكون التجاوز في الحقل ذاته بناء على استيعاب جاد وقراءة تفصيلية تفتح الأبواب للإضافة. والمنجز النوعي يحمل في طياته التحفيز للإضافة، وغالباً ما يحدث هذا في الفعل الجماعي المؤسسي، أما التجاوز الفردي للإنجازات الفردية، وغالباً ما يتعلق بإنجازات الموهبة، فيُسمى تجاوز الذات، أو بما اتفق على تسميته بالتفوق على الذات، وبذلك يتقاطع التجاوز مع معاني التفوق ليقدم لنا شيئاً جديداً فيه ملامح القديم وروح الجديد.

هذه الفلسفة يمكن تطبيقها على معظم ميادين العمل المؤسسي التنموي والمعرفي والإبداعي، وهي ليست سهلة، كما يعتقد كثيرون، لأنها ترتبط بشكل وثيق بهضم ودراسة التراكم تمهيداً للإضافة، فلكي تحدث تجاوزاً في النظام التعليمي، لا بد من قراءة التراث التعليمي الإداري والمنهجي ووسائل التعليم أو التدريس قراءة واعية، تمكنك من الحديث عن إضافة أو تجديد أو تعديل، آخذين بعين الاعتبار التطور المجتمعي والأسري والفكري للعناصر الرئيسية للعملية التعليمية.

فالمدرس اليوم ليس هو المدرس قبل عقدين من الزمان، وتلميذ اليوم ليس هو التلميذ ذاته قبل ثلاثين عاماً، وكذلك الإداري. لقد تغيّر الجميع بتغيّر أدوات المعرفة ومصادرها، وبتحديث النظريات والمقاربات المنهجية والتعليمية، وتغيير التوجهات والأهداف والرؤى. وعلى الصعيد الفردي، حصلت تطورات وتغييرات في المجالات الثقافية والأدبية والفنية حتى باتت الإضافة محفوفة بالمغامرة، فلكي يضيف المبدع في الشعر أو الرواية، عليه قراءة نماذج، وليس كل، من المنتجات التي سبقته، ومن هنا لم يعد مقبولاً التقدم بعمل ضعيف ومتواضع والقول إنه العمل الأول، لأنه وإن كان العمل الأول للمبدع، فهو ليس كذلك للتراكم الإبداعي.

ولعل التجاوز في العمل السياسي هو الأصعب على الرغم من سهولة قراءة التراث السياسي، لأن التسارع في الأحداث والمستجدات إقليمياً وعالمياً تفرض نمطاً عبقرياً للتعامل معها يتسم باليقظة وعدم التسرع مع أهمية السرعة والمبادرة في اتخاذ القرار في ظروف كثيرة، وقد تكون بالغة التعقيد، لهذا، يفضل أصحاب القرار المخضرم من رجال السياسة، الذي عايش الأحداث الكبيرة وشاهدها وشهد عليها، لأن معايشة الحدث تختلف عن القراءة عنه، فالمسألة ليست رياضية بقدر ما تتعلق بالقراءة الشمولية للحدث السياسي، قراءة أثرها على المجتمع والاقتصاد والمزاج الفردي والجماعي، وهذا الأخير هو المعايشة التي يفتقر إليها السياسي الشاب أو الجديد في مهنته.

وهذا يقودنا أيضاً إلى ثنائية الأصالة والمعاصرة، لكي تكون معاصراً يجب أن تكون أصيلاً، بمعنى أنه من الصعوبة التعامل مع مفردات العصر الحديث من دون استيعاب مفردات العصور السابقة، والتي تسمى بالتراث، فالحداثة هي إضافة إلى التراث وتجاوزه أحياناً، بناء على الفلسفة التي استهللنا بها المقالة.

إن الانبهار الذي يلمسه الزائر إلى دولة الإمارات العربية المتحدة هو إعجاب مصحوب بالدهشة لدولة تبدو حديثة جداً، تستخدم الطاقة الكاملة للتقنيات والتكنولوجيا، وتتعامل بلغة القرن الحادي والعشرين، وهي لغة الذكاء الاصطناعي، بينما الأمر ليس كما يبدو للزائر، الذي لو بحث في هذه الحضارة المدنية الحديثة، سيجد أنها مستندة إلى حضارة أصيلة وتراث عريق، لهذا يلجأ الناضجون ثقافياً منهم إلى البحث في ما وراء البريق، ليتعرفوا إلى مصدره وجذوره، فيزوروا المتاحف والمعارض التراثية، عندها يكون إعجابهم بالتجاوز أعمق وأدق وأكثر عقلانية، ويصبح بإمكانهم فهم طبيعة بناء الإنجاز على إنجاز آخر، وهكذا.

نحن نعيش عصر التجاوز في مختلف الميادين، لهذا تتهيأ دولتنا لاختبار مستقبل مبني على التراكم النوعي والجودة الشاملة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4ppykvw7

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"