سياسات منتهية الصلاحية

04:23 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

تجدّدت التظاهرات مؤخراً في مدن إيرانية عدة، مطالبة بتغيير السياسات، ورافعة شعارات دالّة على حالة الاستياء من قبل الشرائح الفقيرة على تدهور الأوضاع المعيشية، وتراجع القدرة الشرائية. وتأتي التظاهرات الجديدة بعد خروج الولايات المتحدة من الاتفاق النووي، وقرار واشنطن تجديد العقوبات على طهران، وهو ما يعني حرمان الأخيرة من واردات مالية كبيرة، من خلال الاتفاقات التي أبرمتها خلال العامين الماضيين مع دول وشركات أوروبية وآسيوية عديدة، بالإضافة إلى تراجع العملة الإيرانية أمام العملات الأخرى بشكل كبير، ما يزيد، بشكل طبيعي، من نسب التضخم في السوق الإيرانية، وزيادة أعداد العاطلين عن العمل.
تشكل السياسات الإيرانية نموذجاً، يشبه في الكثير من مفاصله دولاً شرق أوسطية عديدة، حيث ما زالت تعتمد تلك السياسات على أيديولوجيا منتهية الصلاحية، فقدت شرعيتها أمام حركة الواقع والتاريخ، ولم تعد قادرة على القيام بأي دور وظيفي يخدم شعوبها، كما أن معطيات النظام الدولي الذي كان خاضعاً لتوازن القوة بين القطبين الأمريكي والسوفييتي، خلال الحرب الباردة، قد انتهت إلى غير رجعة، وولّدت معطيات أخرى، في ظل سياق عولمي مختلف، لم تعد فيه الحكومات والشرعيات القائمة على أيديولوجيات مغلقة قادرة على الصمود في وجه المعطيات الجديدة.
حاول النظام الإيراني، الذي تلا الثورة الإسلامية، في عام 1979، أن يبني شرعية ثورية، قابلة للتصدير، في ظل أوضاع إقليمية معقدة آنذاك، معتمداً على شعارات مثل «المقاومة»، و«محاربة الشيطان الأكبر»، و«نصرة المستضعفين»، وغيرها من الشعارات، والتي تشبه، بشكل أو بآخر، شعارات «حزب البعث»، في العراق وسوريا، وقد استمرّ النظام الإيراني في استثمار تلك الشعارات من دون إدراك التحولات العميقة في المجتمع الإيراني، ومن دون إدراك الحاجات الجديدة التي تولّدت لدى شرائح الشباب، وضرورة فتح آفاق أمام وجهات نظر سياسية مختلفة مع النظام الحاكم. ومارس النظام الإيراني قمعاً مستمراً ضد معارضيه، من مختلف التوجهات الأيديولوجية الأخرى، وفي بعض الأحيان ضد رموز محسوبة على الثورة الإسلامية نفسها، لكنها أكثر ليبرالية وانفتاحاً.
وعلى الرغم من «الطابع الإسلامي» للنظام الإيراني، إلا أن العقد الاجتماعي الذي تأسس بعد قيام الجمهورية الإسلامية، لا يبتعد كثيراً عن العقد الاجتماعي الذي تحدث عنه الفيلسوف الإنجليزي توماس هوبز (1588-1679)، والقائم على الأمن مقابل الحماية، حيث تتمتع الحكومة بسلطات واسعة، مقابل تأمين الحماية للمجتمع، وهو ما يجعل من السلطة السياسية خارج أي محاسبة فعلية، خصوصاً أنها مدعومة بسلطة «الحق الإلهي»، بالإضافة إلى حيازتها جميع الأجهزة التنفيذية. وإذا كان هذا الشكل من أشكال العقد الاجتماعي ممكناً في ظل ظروف القرون الوسطى، أو ما يتطابق معها في عالمنا المعاصر، إلا أنه لم يعد ممكناً أن يستمر بالفعالية ذاتها في ظل تحديات النظام الدولي القائم على العولمة، وازدياد التحديات المعرفية والاقتصادية.
لقد سعى النظام الإيراني، خلال العقود الماضية، وخصوصاً في العقد الأخير، إلى توسيع نفوذه خارج حدوده، لكن هذه السياسات الخارجية القائمة على الهيمنة، والتي تعود إلى القرن التاسع عشر، لا يمكن تنفيذها خارج إرادة سوق العمل الدولي، وبالتوافق مع القوى العظمى فيه، وهو أمر لا يمكن أن يكون مطابقاً في الحالة الإيرانية، بل على العكس من ذلك، فإن إيران لا تزال مصرّة على المواجهة مع الغرب، والذي يحوز النسبة الأكبر في سوق العمل الدولي، والذي تهمين فيه الولايات المتحدة، منفردة، على أكثر من 18% منه، وهو ما يعني أن إيران، من الناحية العملية، تدفع ثمن هيمنتها في الإقليم من جيوب الإيرانيين الفقراء، ومن فرص تطوير الاقتصاد الداخلي.
إن هيمنة النخب السياسية لفترات طويلة، في أنظمة مغلقة، واتباعها سياسات لا تخضع للمراجعة، أو للتغيير والتكيّف مع الاحتياجات المتزايدة للشعوب، يجعل من المواجهة بين تلك النخب السياسية والشعوب أمراً شبه حتمي، لكن من الناحية العملية، تؤكد السياقات التاريخية لتلك الأنظمة أن النخب السياسية تصبح مع الوقت غير معنية بحاجات شعوبها، بل إنها تستمر في اتباع سياسات منتهية الصلاحية تاريخياً، كما أنها في سياق الآليات الدفاعية، تقوم بالتمسك أكثر فأكثر بتلك السياسات، وهو ما يجعل من المواجهة بينها وبين الشعوب تمضي باتجاه عنفي، بعد استعصاء عمليات التغيير السلمي، وعدم السماح بظهور نخب جديدة، أكثر كفاءة ومقدرة في تجاوز الأزمات الوطنية.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"