شعب الرافدين لا يقبل بديلاً

03:20 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود حسونة

العراق يبكي دماً وينتحب جوعاً، بعد أن التهمت خيراته ثلة من الفاسدين، ووصل الأمر إلى حد اعتراف مؤسسات حكومية بخسارة الدولة أكثر من 500 مليار دولار جراء الفساد.
توقفت تظاهرات الغضب في العراق وبقي السؤال عالقاً: هل انتهت من غير رجعة أم ستبقى لها ذيول يمكن أن تُشعل الشرارة مرة أخرى؟
صحيح أن الحكومة قدمت تعهدات بإصلاح ما تسبب في إثارة الغضب، وصحيح أن رئيس الدولة استنكر استخدام القوة ضد المتظاهرين، وتعهد بمحاكمة من ضربوا وقتلوا وامتهنوا إنسانية الغاضبين، ولكن الصحيح أيضاً أن القوات المسلحة اعترفت باستخدام مفرط للقوة نجم عنه مقتل 110 أشخاص، وإصابة آلاف المحتجين، وهو ما ترك جروحاً يصعب أن تداويها التعهدات، وأحدث شروخاً تجعل عودة الثقة المفقودة أصلاً منذ سنوات مهمة صعبة إن لم تكن مستحيلة.
وعلى الرغم من أن التدخل الإيراني كان سبباً جوهرياً لانتفاضة العراقيين، فإن طهران بدلاً من أن تترك البلد لأهله، عادت لتسكب الزيت على النار بقرارها إرسال 750 عنصر أمن بدعوى حماية مراسم «أربعين الحسين»، مستهينة بقدرة العراق على حماية الفعاليات التي تقام على أرضه.
«إيران برة برة.. بغداد تبقى حرة»، شعار ردده الغاضبون العراقيون في ميادين التظاهر المختلفة، يلخّص ما آل إليه الوضع في بلاد هارون الرشيد والمتنبي، نتيجة التحكم الإيراني في المسار والمصير العراقي، الذي بلغ مرحلة لم يتقبل الشعب السكوت عنها، بعد تدخل طهران لإقصاء الفريق عبد الوهاب الساعدي من قيادة قوات مكافحة الإرهاب وصاحب الفضل الأكبر في هزيمة تنظيم «داعش» الإرهابي، وبدلاً من تكريمه والتشبث به، يتم طرده لتعيين آخَر موالٍ لطهران في إطار إطاحة كل من يقف في وجه طموحات السيطرة الإيرانية.
الشعار يعبِّر عن أن حرية وصلاح العراق مرهون برفع إيران وصايتها على القرار العراقي، ويؤكد أن الشعب لا يتقبل تدخل الآخرين في شؤونه حتى لو صمت بعض الوقت. هذا الشعب الذي تجرع الكثير من المر، منذ وقع بين المطرقة الإيرانية والسندان الأمريكي، ليجد نفسه محاطاً بالعنف والإرهاب، غارقاً في فساد ابتلع ثرواته، وهو صاحب الأرض والوطن الذي أنعم الله عليه بكل ما يضمن له الازدهار من أكبر مساحة من الأرض الخصبة ونهرين من أهم أنهار الدنيا، وثروة بترولية ومعدنية كفيلة بأن تجعله من أكثر شعوب العالم ثراء.
العراق يبكي دماً وينتحب جوعاً، بعد أن التهمت خيراته ثلة من الفاسدين، ووصل الأمر إلى حد اعتراف مؤسسات حكومية بخسارة الدولة أكثر من 500 مليار دولار جراء الفساد، في حين أكدت شخصيات عراقية مسؤولة أن الرقم الحقيقي يفوق ذلك بكثير، وصنفت منظمات دولية العراق من أكثر الدول فساداً، مما دفع عادل عبد المهدي رئيس الوزراء، إلى تشكيل مجلس أعلى لمكافحة الفساد، عجز عن أن يفعل شيئاً في ظل منظومة تحتاج إعادة النظر بشكل كامل وإقصاء كل من يعمل لحساب دول لا تريد صلاحاً للبلد.
الشعب العراقي يُدرك أن ما يضيع من خيرات بلاده يفوق بكثير ميزانيات دول كبرى، وهو الذي يكتوي بنار الغلاء والفقر والحاجة والبطالة، وغيرها من المظاهر التي تسيّدت الساحة؛ لذا من الطبيعي أن يغضب وينتفض من حين لآخر، أملاً في استرداد قراره وثروته ومكانته. هو انتفض مرات ومرات، ولكن هذه المرة الأمر مختلف، حيث لم يتحرك الشارع لأهداف حزبية ولا طائفية، ولا سعياً لنصيب في السلطة، ولكنه تحرك عفوياً في ظل غياب أي أفق مبشر أمام الشباب.
وعلى الرغم من أنها ليست المرة الأولى التي يثور فيها الشعب، فإن من تصدوا لغضبه وحاولوا إسكات صوته بالعنف والقتل، لم يتعلموا شيئاً من سلسلة التظاهرات السابقة، ولم ينظروا حولهم ليستفيدوا من دروس الدول الأخرى التي قابلت الغضب بالعنف فوقعت في مستنقع الخراب.
إن الشعب العراقي نسيج واحد مهما أغرقوه في الطائفية، ولن يقبل التدخل الأجنبي حتى لو كان بذرائع دينية، ولن يقبل أن يدير ظهره لعروبته مهما كانت المغريات أو الضغوط، ولن تستطيع أي ميليشيات طائفية، السيطرة عليه، وسيقف في وجه الفساد بالمرصاد حتى يحافظ على الوطن والمكتسبات لأبنائه وأحفاده.
أمام تلك الهبّة الشعبية لا يكون الحل في إقالة محافظ أو طرح مبادرات أو الإكثار من الكلام السياسي المعسول من هذا الزعيم أو ذاك؛ بل بدرس دوافع الهبّة ونتائجها، حتى تحافظوا على مواقعكم وعلى العراق؛ لأن شعب الرافدين لن يقبل بديلاً عن عودة وطنه عربياً وقوياً ومؤثراً في محيطه.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب صحفي، بدأ مسيرته المهنية عام 1983 في صحيفة الأهرام المصرية، وساهم انطلاقة إصداراتها. استطاع أن يترك بصمته في الصحافة الإماراتية حيث عمل في جريدة الاتحاد، ومن ثم في جريدة الخليج عام 2002، وفي 2014 تم تعيينه مديراً لتحرير. ليقرر العودة إلى بيته الأول " الأهرام" عام 2019

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"