ثروات المتوسط والرأسمال الرمزي

05:14 صباحا
قراءة 4 دقائق
الحسين الزاوي

عادت الدراسات الاستراتيجية المتعلقة بالحوض المتوسطي لتأخذ مؤخراً، حيزاً معتبراً من اهتمام مراكز البحث الدولية المهتمة بالتطورات الجيوسياسية التي يشهدها العالم في المرحلة الراهنة، إذ إنه وفضلاً عن الأهمية الحضارية التي يمثلها الفضاء المتوسطي بالنسبة إلى دول وشعوب المنطقة، فإن الثروات الطبيعية التي تزخر بها أعماق البحر، أطلقت تنافساً محموماً بين الدول المتوسطية من أجل الحصول على نصيبها من هذه الخيرات، التي تؤكد معظم المصادر الاقتصادية على أنها تصل إلى مستويات جد معتبرة، ويمكنها أن تؤثر في مستقبل دول المنطقة بشكل لافت. ومن الواضح أن الجغرافيا السياسية للبحر الأبيض المتوسط مازالت تشكل رهاناً يتجاوز حسابات القوى الكبرى والإقليمية المطلة على شواطئه، حيث تسعى واشنطن ولندن إلى الحفاظ على نفوذهما في المنطقة، كما يشكل التواجد الروسي في سوريا ورقة أساسية بالنسبة لموسكو من أجل ضمان تموقعها في المياه الدافئة.
ويمكن القول إن الفضاء المتوسطي، ظل طيلة قرون طويلة مسرحاً للتنافس ما بين الحضارات والدول المطلة على سواحله، شرقاً وغرباً، شمالاً وجنوباً، من الفينيقيين والرومان والمسلمين، مروراً بشخصيات تاريخية كبرى مثل صلاح الدين الأيوبي، ونابليون الذي احتل مصر، وصولاً إلى البحرية الإسبانية التي احتلت شواطئ المغرب والجزائر؛ لكن هذه الوضعية المتعلقة بالصراع المتوسطي الداخلي، بدأت تتغير مع بداية الفترة الحديثة وحدوث قناعة حقيقية لدى بقية القوى الأوروبية غير المتوسطية، وفي مقدمها ألمانيا وبريطانيا التي قامت باحتلال جبل طارق سنة 1704، بالأهمية الكبرى التي تمثلها مياه المتوسط من أجل الدفاع عن مصالحها الاستراتيجية في كل أصقاع المعمورة، لأن المتوسط هو أشبه ما يكون بوعاء عقاري باهظ الثمن يصعب على أصحاب العقارات الجغرافية الأخرى تثمين ممتلكاتهم من دون أن يحصلوا على موقع قدم بداخله.
وقد قامت فرنسا - القوة الكبرى الأولى المطلة على المتوسط - بآخر محاولة لها من أجل خلق شراكة حقيقية بين دول المتوسط تسمح لها بمواجهة نفوذ حلفائها الغربيين المتزايد في المنطقة، وبذل الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي، جهوداً جبّارة من أجل تجسيد مشروعه الموسوم «الاتحاد من أجل المتوسط»، لكنه اكتشف في الأخير أن إمكانية الهيمنة على الفضاء المتوسطي، مسألة تتجاوز طاقات وقدرات دولة أوروبية بحجم فرنسا، بخاصة بعد أن اصطدم مخططه برفض الدول العربية المتوسطية لمسار التطبيع مع «إسرائيل». ونتيجة لكل هذه التعقيدات التي تميّز الفضاء المتوسطي، بخاصة منطقته الشرقية، يمّمت فرنسا وجهها شطر ضفته الغربية، لتعمل مع شركائها في دول الاتحاد الأوروبي والمغرب العربي، على تشكيل مجموعة 5 زائداً 5، التي لم توفق مالطا حتى الآن، في توسيعها لتضم مصر واليونان، وتصبح مجموعة 6 زائداً 6، لكن هذا التحالف الجديد لا يزال هشاً حتى الآن، وتهيمن على لقاءاته القضايا الأمنية المتعلقة بمحاربة الإرهاب ومكافحة الهجرة السرية.
ويتجه الصراع حالياً، في شرق المتوسط نحو مزيد من التصعيد على خلفية الاحتياطيات الكبرى من الغاز التي أسالت لعاب القوى الإقليمية، التي تريد أن تهيمن على القسم الأكبر من هذه الثروة، وبدأت بوادر التوتر تظهر بين دول، مثل لبنان و«إسرائيل»، وتركيا وقبرص، لاسيما وأن تركيا تعترض على الاتفاق الذي أبرمته حكومة نيقوسيا مع «إسرائيل» بشأن رسم الحدود البحرية مع الجزيرة المقسمة بين الأتراك واليونانيين، كما ترفض أنقرة في السياق نفسه اتفاقية رسم خط الحدود البحرية الذي جرى توقيعه سنة 2013 بين القاهرة ونيقوسيا، فضلاً عن روسيا التي نصبت نفسها كمدافع عن مصالح حلفائها في سوريا. ومن المرجح أن تشهد المواجهة بين لبنان و«إسرائيل» من جهة، وبين تركيا وشطر قبرص اليوناني ومصر من جهة أخرى، تطورات مأساوية قد تنجم عنها حروب إقليمية كبرى.
ويذهب الخبراء الدوليون إلى أن التوترات في شرق المتوسط، مرشحة مستقبلاً للانتقال نحو غرب هذا الحوض، نتيجة سعي دول المنطقة إلى استغلال الثروة النفطية والغازية الموجودة داخل حدود مياهها الإقليمية المنصوص عليها في المواثيق الدولية، فقد وقّع الرئيس الجزائري عبد العزيز بوتفليقة مع بداية هذا الشهر مرسوماً يقضي بإنشاء مناطق اقتصادية في عرض السواحل الجزائرية من أجل التنقيب عن المحروقات، ومن غير المستبعد أن يصطدم هذا المسعى الجزائري مع الطموحات المماثلة لجيرانها في الضفة الجنوبية. وقد يؤدي أيضاً توسيع مجال الاستثمار الجزائري نحو المياه الدولية إلى توترات مع فرنسا، التي تضعها الجغرافيا الطبيعية في الجهة الشمالية المقابلة من الحدود البحرية الجزائرية في البحر الأبيض المتوسط.
نستطيع أن نخلص بناءً على المعطيات التي تحدثنا عنها، أن الرأسمال الرمزي للحوض المتوسطي الذي شهد ميلاد الديانات السماوية الثلاثة، سيظل يمثل فضاءً مفتوحاً على كل الاحتمالات، وسيبقى مؤسِّساً لكل الرهانات الدولية الكبرى، وبالتالي فإنه وخلف المواجهات الجيوسياسية والتنافس على النفوذ والثروة، سيكون لعناصر التاريخ والحضارة والثقافة والدين الدور الأبرز في رسم ملامح مستقبل المنطقة على الصعيدين السياسي والاقتصادي. من منطلق أن هذه العناصر لا يمكن أن تقاس قيمتها الرمزية اعتماداً على مؤشرات مادية صرفة قد تزيد قيمتها، أو تنقص، وفقاً لحسابات ظرفية زائلة، ومن ثم فإن البعد الرمزي لحواضر متوسطية كبرى، مثل القدس ودمشق وأثينا والإسكندرية، لا يمكن مقارنته بالقيمة المادية الزائلة لعواصم الدول الكبرى.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

أستاذ الفلسفة في جامعة وهران الجزائرية، باحث ومترجم ومهتم بالشأن السياسي، له العديد من الأبحاث المنشورة في المجلات والدوريات الفكرية، ويمتلك مؤلفات شخصية فضلا عن مساهمته في تأليف العديد من الكتب الجماعية الصادرة في الجزائر ومصر ولبنان

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"