في العنصرية ضد «الآخر» العربي

03:38 صباحا
قراءة 3 دقائق

عبد الإله بلقزيز

ما من قراءة لحال الأذى البليغ التي أصابت الهجرة والمهاجرين العرب، في مراكز الاستقبال الرأسماليّة العالميّة، من دون استحضار الآثار التي ألقَتْها عليهم التحوّلات الضخمة التي كانت بلدان الغرب مسرحاً لها؛ الانتقال من نموج التصنيع والرأسماليّة الصناعيّة إلى نموذج الرأسماليّة الماليّة وما رافقها من نقضٍ لعمليّة التصنيع ؛ انهيار شرق أوروبا «الاشتراكيّ» وزحف المهاجرين من بلدانها إلى أوروبا الغربيّة والولايات المتحدة ؛ الأزمة الاقتصاديّة والماليّة التي عصفت ببلدان الغرب نتيجة فشل سياسات الانتقال من نموذج اقتصاديّ إلى آخر؛ أو تكييف الاقتصادات مع موجباته؛ الضغط الحادّ لأزمة بطالة القوى العاملة المحلّية في بلدان الغرب والتصاعُد المطّرد لنِسَبِها وأعدادها، مع ما تفرضه على بلدان كثيرة من أثمان اقتصاديّة وماليّة باهظة لتغطية الحقوق الاجتماعيّة للعاطلين عن العمل: التزاماً بقيم نموذج دولة الرعاية الاجتماعيّة الذي بات غربُ الرأسماليّة الماليّة ينْفُر منه وينفصل عنه...إلخ. هذه جميعُها عوامل وأسباب تفسّر ما أصاب الهجرة من سوء أحوال، وما يهدّد المهاجرين العرب، المقيمين في المَهَاجر، من خطر النّيل من حقوقهم وأمنهم واستقرارهم. غير أنّ صورة ذلك الأذى وأسبابَه لا تكتمل إلاّ متى ما أخذنا في الحسبان أنّ نكبة الهجرة والمهاجرين ليست اقتصادية فحسب، أو ليست لأسباب اقتصادية حصراً، بل تعود - في جزءٍ كبيرٍ منها - إلى أسباب اجتماعيّةٍ وثقافيّة يعبّر عنها، اليوم، الصعودُ المطّرِد للنزاعات العنصريّة - في أوروبا خاصّةً - تجاه العرب والمسلمين وتجاه الأجانب عموماً.
انطلقت الموجاتُ الأولى من العداء في بيئات اجتماعيّة ضيّقة، في الأطوار الأولى من التعبير عنها؛ في بيئة فئات العاطلين عن العمل، ممّن توهّموا أنّ المهاجرين يكمنون في أساس عطالتهم، ومن بعض تيارات اليمين العنصريّ المتطرّف، التي كانت ضعيفة التأثير حتى حدود ثمانينات القرن الماضي. غير أنّ موجات العداء تلك ما لبثت أن توسَّعت وعظُمت، فاعليّةً وأثراً، في امتداد اتّساع نطاق الأزمات الاقتصاديّة التي أعقبت فترة الرخاء (1945-1975)، كما في امتداد توسّع القاعدة الاجتماعيّة لقوى التطرّف اليمينيّ العنصريّ، وارتفاع أسهمه في الحياة السياسيّة.
وقد أصابَ مهاجري بلدان المغرب العربيّ منها النصيب الأكبر (ربّما لكثرة أعدادهم)، خاصّةً في فرنسا وبلجيكا وإسبانيا وإلى حدٍّ ما هولندا. ويكفي دليلاً على الحجم الذي بلغته ظاهرة العداء العنصري لمهاجري البلاد العربيّة والإفريقيّة أنّ القوى الممثِّلة لها في فرنسا وبلجيكا والنمسا وإسبانيا - وأظهرُها حزب «الجبهة الوطنيّة» في فرنسا (والذي أسّسه الضابط السابق في الجيش الفرنسي في الجزائر: جان ماري لوپان، وتقودُه - اليوم ابنتُه مارين لوپان) أصبحت ذاتَ وزنٍ سياسيّ وانتخابيّ كبير إلى الحدّ الذي أوصل هذا اليمين العنصريّ إلى السلطة في النمسا، والذي يهدّد بإيصاله إليها في فرنسا؛ حيث «الجبهة الوطنيّة»، اليوم، أقوى التيارات السياسيّة فيها.
والملاحظ أنّ صعود النزعات العنصريّة في أوروبا، إذْ يقوم على تعبئةٍ سياسيّةٍ للجمهور مدارُها على خطر الهجرة والمهاجرين على «نقاء» «العِرق» الأوروبيّ، وعلى مصالح المواطنين الأصليّين المتحسّسين من مهاجرين يزاحمونَهم على ثروات البلاد، يتغدّى في الوقت عينِه من قابليّةٍ لدى ذلك الجمهور لتصديق هذه السرديّة العنصريّة، والتجاوُب معها و«النضال» من أجل نصرة مطالبها في وقف الهجرة، بل وطرد المهاجرين! وإلاّ ما كان للنزعة تلك أن تَفْشُوَ وتكسب لها الأتباع والمحازبين، فيتحوَّل حَمَلَتُها إلى قوّةٍ سياسيّة ذات وزن. وهذه العدوى يبدو أنّها تنتقل، اليوم، من أوروبا إلى الولايات المتحدة في عهد دونالد ترامب؛ الذي يخوض صراعاً ضدّ الجميع من أجل إقامة جدارٍ عنصريّ ضدّ المكسيك والمهاجرين منها.
عرفنا صُوراً من هذه النظرة الاستعلائيّة العنصريّة، التي تحتقر الشرق والشرقيّين، في أعمال مستشرقين كثر في القرنين التاسع عشر والعشرين ارتبطوا بالمؤسّسة الكولونيالية، وقدّموا السّخْرةَ الفكريّة لها، كما شهدنا على صورٍ منها في خطابات الساسة الغربيّين الاستعماريّين، وخصوصاً أولئك الذين تقلّدوا منهم مسؤوليات في أجهزة السلطة الاستعماريّة في المستعمرات العربيّة السابقة. وها نحن نشهد، اليوم، على طورٍ جديد من التعبير عنها كان للقوى الصهيونيّة، ولوبياتها في الولايات المتحدة وأوروبا، الدور الأعظم في هندسة حملاتها وإدارتها ضد المهاجرين، والعرب والمسلمين إجمالاً.
تتزوّد العنصريّة ضدّ المهاجرين بوقودها من كلّ هذا المخزون من الأفكار المبثوثة، عبر الكتب والمجلات والرسائل والصّحف وأجهزة الإعلام، منذ ذلك الحين من الغزو الكولونياليّ والصهيونيّ. وهي تنشط، اليوم، على أوسع نطاق مستثمرة وسائط الإعلام والاتصال - وأغلبُها مملوك لقوى الضغط الصهيونيّة - ومستفيدة من اتساع دائرة المهووسين بالإسلام في الغرب (الإسلاموفوبيا). ولكنّ صعود هذه العنصريّة ما كان ليكون فاعلاً وقويّاً ومخيفاً، لهذه الأسباب الثقافيّة التي ذكرنا، لولا عامل الأزمة الاجتماعيّة الذي تضرب نتائجُه في البيئات الغربيّة الشابّة؛ في أوضاعها وأذهانها ومسلكيّاتها، فتدفع سلوكهم الاجتماعيّ إلى التعبير عن نفسه عُصابيّاً ضدّ الآخر المختلِف محمِّلةً إيَّاهُ أوزار مجتمعاتها المأزومة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"