الكلمة مفتاح الشعوب

00:43 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

ما هي التجربة الأهم التي تجعل جماعة ما تشعر بترابطها وانتمائها لكيان واحد ومحدد المعالم؟ في كتابه «الهيمنة العالمية والإيمان بالتفوق.. أوروبا 1950-1914» يحلل المؤرخ الألماني يوهانيس بولمان، أربعة تجارب أوروبية قاربت هذا السؤال في القرن التاسع عشر، في بريطانيا اشتغل الكتّاب لفترة طويلة على فكرة البطولة التي جمعت الكثير من القراء حولها، وفي فرنسا تجمعت النخبة حول مصطلح جديد آنذاك وهو «المثقفون»، تلك الفئة التي تطوعت للدفاع في قضية الضابط دريفوس، وفي روسيا كان الأدب بأعلامه العظام أداة قوية خلقت أحساساً بهوية مشتركة، أما في إيطاليا التي كانت ترتفع فيها نسبة الأمية مقارنة ببقية شعوب القارة الأوروبية فقامت الموسيقى بدور مشابه.

  لقد كانت الكلمة المفتاح في الإحساس بقضية مشتركة، ورابط تتوحد خلفه ملايين البشر، تعود بدرجة ما إلى فضاء الثقافة العامة، وهو ما عشناه، بطريقة أو أخرى، في العالم العربي خلال القرن نفسه تقريباً، حيث جمعت قضية النهضة بين مفكرين وكتاّب من مصر ولبنان وتونس والعراق..إلخ، الجميع توحد وراء مفهوم النهضة، والكل قدّم أحسن ما في جعبته للإجابة عن سؤالين، أدى كل منهما إلى الآخر: لماذا تراجعنا أو تخلفنا؟ وكيف نتقدم؟ ولم يشغل العرب طول المئة عام الممتدة حتى منتصف القرن العشرين أي هاجس بخلاف هذين السؤالين، وعلى أساس إجابة الكاتب كان يتم تصنيفه فكرياً، فالتيارات السياسية والفكرية المختلفة تشكلت في إطار الإجابة عن السؤالين نفسيهما.

 ولكن في الحالات الأوروبية التي أوردها بولمان كانت المفاهيم والآليات التي اختارتها كل دولة، نضجت ودخلت في صلب الثقافة العامة للشعوب، بل وقامت تلك البلدان بتصديرها إلى العالم بأكمله، وكلنا نعرف مفعول كلمة «ثقافة» وارتباطها في مخيال الكثيرين منّا بفرنسا، والأمر نفسه ينطبق على الأدب الروسي الذي كان يوزع آلاف النسخ في الكثير من البلدان حتى سنوات قليلة مضت. الحالة العربية اختلفت، فبرغم عشرات الإجابات التي قدمت في ما يتعلق بسؤالي النهضة، وبرغم تحوّل الكلمة الأخيرة إلى كلمة سحرية في الفضاء العربي العام، إلا أننا لم نقدم إجابة واقعية تكون بمثابة حل نهائي لقضية النهضة. كانت الإجابات كلها نظرية، ومع مرحلة الاستقلال بدا أن الثورات العربية في خمسينات وستينات القرن الماضي تتجاوز في خطاباتها وأحلامها مفهوم النهضة نفسه، الأمر الذي جعل العرب ينتقلون سريعاً من النهضة التي لم تكتمل إلى الثورة التي سيعترضها ألف عائق وعائق، وسنعود جميعاً إلى البدايات، بدايات حتى ما قبل النهضة.

 وعادت النهضة لتطل برأسها من جديد في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي، ولكن لحاجة أخرى، اكتشف مثقفونا أن بيدها الحل الذي من خلاله نستطيع أن نواجه تيارات العنف الأسود، وهنا طُرحت الأفكار ونوقشت الأسئلة المختلفة وإجاباتها، وجاءت موجة العولمة لتغلق دائرة العصف الذهني حول النهضة للمرة الثانية، ولكن برغم كل ذلك، لا تزال كلمة نهضة حلم الكثيرين من العرب الذين يتطلعون إلى يوم تتجاوز فيه أمتهم عثراتها وتستعيد مكانتها الحضارية المستحَقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/4rpv9e74

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"