عادي
حرب أوكرانيا شكلت نهاية للتعاون بين موسكو و8 دول مطلة عليه

«البلطيق».. «بحر مشاكل» بين روسيا والناتو

00:06 صباحا
قراءة 6 دقائق
Video Url
جنود أمريكيون يتدربون في لاتفيا قرب الحدود الروسية
ممر سولاكي الذي يربط كالينينجراد بالأراضي البيلاروسية ومن ثم بالأراضي الروسية ويفصل دول بحر البلطيق ليتوانيا ولاتفيا وأستونيا عن بولندا

د.أيمن سمير
المؤكد أن عالم ما بعد الحرب الأوكرانية لن يكون كما كان قبلها، فهذه الحرب أحيت صراعات، وفتحت جراحات، كاد العالم أن ينساها أو يسمو فوقها، فالنظرة الاستراتيجية للدوائر الحقيقية التي تدور فيها رحى هذه الحرب، تكشف أنها أبعد بكثير من أوكرانيا، وأنها أشعلت من جديد خلافات وصراعات في شرق أوربا، و حوض البحر الأسود، ومنطقة البلقان، وآسيا الوسطى، وجنوب القوقاز، لكن لم يتخيل أحد أن تصل شرارة الحرب الروسية الأوكرانية إلى منطقة ظلت هادئة على الأقل خلال العقود الثلاثة الماضية؛ وهي «حوض بحر البلطيق» والذي حافظت فيه دولة مثل السويد على الحياد لأكثر من قرنين من الزمان منذ أن وقعت عقب نهاية الحروب النابليونية على اتفاقية عام 1815 بعد نحو 11 حرباً مع روسيا، للسيطرة على البلطيق.

بحر البلطيق، الذي تبلغ مساحته 377 ألف كم، ويصل طول سواحله إلى 8000 كلم، تطل عليه مع السويد 8 دول أخرى؛ هي: روسيا التي تمتلك نافذتين على بحر البلطيق من خلال حدودها الشمالية الغربية التي بها مدينة سان بطرسبرج، إضافة إلي جيب كالينينغراد المنفصل عن الأراضي الروسية، لكن الأهم أن بحر البلطيق يوفر لروسيا «واجهتها الأوربية»، وكان بحر البلطيق هو الأساس الذي اعتمد عليه وزير الخارجية الأمريكي الأسبق هنري كيسنجر عندما قال عن روسيا إنها «أوربية بامتياز».

كما تطل علي بحر البلطيق أكثر 4 دول عداوة لروسيا؛ وهي: بولندا، و دول بحر البلطيق الثلاث التي ضمها الزعيم السوفييتي جوزيف ستالين عام 1945، وكانت أول الدول التي استقلت عن الاتحاد السوفييتي السابق «ليتوانيا وإستونيا ولاتفيا»، وتطل أيضاً على بحر البلطيق، دول في غاية الأهمية على الساحتين الأوربية والدولية؛ هي فنلندا وألمانيا والدانمارك، وبهذه تتواجد على ضفاف البلطيق عواصم كثيرة؛ أبرزها كوبنهاغن عاصمة الدنمارك، هلسنكي عاصمة فنلندا، استوكهولم عاصمة السويد، تالين عاصمة أستونيا، ريغا عاصمة لاتفيا.

والنظرة الجيوسياسية تقول إن هناك «تحولات جذرية» و«معادلات جديدة» في دول وحوض بحر البلطيق، سوف تترك آثارها الجديدة على الأقل لنصف قرن قادمة، وأن بحر البلطيق الذي شكل طوال العقود الثلاثة الماضية ممراً للتجارة والغاز والنفط والملح والكهرمان قد يكون غير ذلك في ظل الزيادة غير المسبوقة في العتاد العسكري، والغواصات النووية، والصواريخ الأسرع من الصوت التي تتكدس في القواعد العسكرية القريبة منه أو التي تطل عليه، فما هي أبعاد الصراع على بحر البلطيق؟ وما حسابات روسيا والغرب لتطويع الوضع الجيوسياسي في هذه المنطقة لمصلحة إحداهما؟ وما الرمزية الخاصة التي تربط الرئيس الروسي فلاديمير بوتين تجاه بحر البلطيق؟

تحولات استراتيجية

غيّرت الحرب الروسية الأوكرانية كافة الحسابات الاستراتيجية للطرفين الروسي والغربي في بحر البلطيق، وطالت هذه المتغيرات ليس فقط الجوانب السياسية؛ بل والعسكرية والاقتصادية أيضاً، وتتجسّد تلك التحولات في مجموعة من المسارات؛ وهي:

أولاً: نهاية التعاون الاقتصادي بين روسيا والغرب، خاصة في مجال نقل الغاز أسفل بحر البلطيق، فبعد أن نجحت المستشارة الألمانية السابقة أنجيلا ميركل مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين في الاتفاق على نقل 55 ألف متر مكعب من الغاز الروسي عبر خط «نورد ستريم 2» بكُلفة تصل إلى نحو 11 مليار دولار، أوقفت الحرب هذا المشروع بعد أن اكتمل بشكل نهائي، وهو الخط الذي كان يمر أسفل بحر البلطيق، وكان ينتظر الترخيص من الاتحاد الأوربي مثل نهاية عام 2021، وتم تفجيره في سبتمبر/ أيلول الماضي في ظل اتهامات متبادلة بين الولايات المتحدة وروسيا بالمسؤولية عن تفجيره، كما أن أي صراع عسكري في بحر البلطيق سوف يؤثر سلباً في البضائع التي تصدرها ألمانيا، خاصة من موانئ روستوك ولوبيك وكيل، ناهيك عن ميناء «غدانسك» البولندي، وهو الواجهة البحرية لمدينة غدانسك التاريخية التي خرجت منها النقابات العمالية ضد الحكم الشيوعي، وأنهت سيطرة الاتحاد السوفييتي وحلف وارسو على بولندا بقيادة القائد البولندي الشهير ليخ فاونسا.

ثانياً: بحر البلطيق «بحيرة أطلسية»، فقبل الحرب كانت هناك 6 دول فقط من الدول التسع المطلة على بحر البلطيق ضمن «حلف الناتو» وهي ألمانيا وبولندا والدانمارك ولاتفيا وإستونيا وليتوانيا، بينما اليوم دخلت فنلندا التي لها أكثر من 1300 كم من الحدود المشتركة مع روسيا لحلف «الناتو» في 4 إبريل/ نيسان الماضي، وتشير كل التوقعات إلى أن السويد سوف تدخل «الناتو» عقب نهاية الانتخابات التركية، كما أن دولة مثل ألمانيا التي كانت تقع في «معسكر الحمائم»، عندما كان يجري الحديث عن الخلافات مع روسيا، انتقلت بكل ثقلها الجيوسياسي والاقتصادي لمصلحة مقاربة «الناتو» المتشدد ضد روسيا، وبهذا أصبحت روسيا تواجه جميع دول بحر البلطيق السبع، والتي باتت من الأعضاء في «الناتو»، إضافة إلى السويد، وهذا الأمر شجع الولايات المتحدة لإرسال سفن عسكرية ضخمة لبحر البلطيق منها البرمائية «كيرسيغ»، وبهذا سيشكل بحر البلطيق «الممر الرئيسي» لوصول الدعم والمساعدات العسكرية من الولايات المتحدة وبريطانيا عبر المحيط الأطلنطي، ومنه إلى بحر الشمال، وعند الجزر الدانماركية سوف تدخل المساعدات الغربية الى بحر البلطيق وصولاً إلى الدول المجاورة لروسيا مباشرة في هذه المنطقة وهي ليتوانيا ولاتفيا وإستونيا وفنلندا.

ثالثاً: يسعى حلف «الناتو» من خلال ضم السويد المتوقع في يونيو/ حزيران أو يوليو/ تموز القادمين إلى مساعدة السويد على تعزيز دفاعاتها في جزيرة غوتلاند السويدية التي لا تبعد عن مقاطعة كالينينغراد «الروسية الاستراتيجية أكثر من 300 كم، وتستطيع هذه الجزيرة أن توفر لحلف» الناتو «نقطة مراقبة إلى جانب قدرتها على توفير رصد دائم وقاعدة متقدمة في بحر البلطيق وخليج فنلندا، كما يمكن أن تكون بمنزلة أقرب نقطة في بحر البلطيق التي يمكن استخدامها في توفير الدعم العسكري لدول الناتو».

رابعاً: لا تكتفي الدول المجاورة لروسيا في بحر البلطيق بالتنسيق والعمل مع «الناتو»؛ بل تحاول خلق إطار عمل استراتيجي إضافي من دول خارج المنطقة للعمل في بحر البلطيق؛ وذلك من خلال توقيع السويد مع الدنمارك والنرويج في سبتمبر/ أيلول 2021، اتفاقية للتعاون الدفاعي في بحر البلطيق؛ وذلك في إطار ما يُسمى ب«التعاون الدفاعي لدول الشمال» الذي يضم أيضاً الدنمارك وفنلندا وآيسلندا والنرويج والسويد.

خامساً: يحمل بحر البلطيق رمزية خاصة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين الذي ولد في مدينة سان بطرسبرج التي تطل على البلطيق وبناها بطرس الأكبر كثمرة من ثمار انتصاراته على السويد في نهايات القرن السابع عشر، وهو ما أسهم في تحويل روسيا من دولة آسيوية إلى دولة أوربية، وسوف تكتسب أي مواجهة عسكرية في البلطيق رمزية خاصة للرئيس بوتين لأسباب إضافية تتعلق بأن أسطول «بحر البلطيق» الروسي هو رمز من رموز التفوق البحري الروسي، وكان السبب الأول عند تأسيسه في عهد بطرس الأكبر في تحويل روسيا من قوة إقليمية إلى قوة عسكرية دولية.

سادساً: زادت روسيا من حشدها العسكري في مقاطعة كالينينغراد، وهي المنطقة البعيدة عن الأراضي الروسية والتي لا تزيد مساحتها على 15 ألف كم، لكنها تطل على البلطيق، وتقع بين ليتوانيا وبولندا، ووفق بيانات الناتو، فإن روسيا نشرت غواصات نووية وسفناً حربية جديدة لأسطول بحر البلطيق الروسي أمام كالينينغراد، إضافة إلى صواريخ «أسرع من الصوت» مثل صواريخ «كينجال» التي تعني «الخنجر»، وصواريخ «إسكندر إم» المحمولة ذات القدرة النووية.

خطر المناطق الرخوة

ويمكن أن تندلع الحرب في البلطيق، بسبب الخلاف الروسي مع ليتوانيا حول حق المرور من بيلاروسيا إلى كالينينغراد عبر «ممر سوالكي» الذي يفصل دول بحر البلطيق الثلاث شمالاً عن بولندا جنوباً، كما أن هذه الممر الذي تنقل من خلاله السكك الحديدية الروسية الفحم والحديد إلى كالينينغراد حاولت ليتوانيا إغلاقه، لكن الاتحاد الأوروبي الذي وقع اتفاقية بشأن «ممر سوالكي» مع روسيا عام 1994 طلب من ليتوانيا السماح بمرور البضائع الروسية ماعدا الأسلحة، وهناك انطباع في البلطيق بأن الحرب لو تمددت بين روسيا وحلف الناتو سوف تبدأ من «كالينينغراد»، و«ممر سوالكي» الذي لا يزيد على 65 كم؛ وذلك لاعتبار بولندا ودول بحر البلطيق أنها «مناطق رخوة» وبعيدة عن روسيا؛ حيث تبعد كالينينغراد عن الحدود الروسية بنحو 300 كم، ويحتاج الوصول إليها من موسكو نحو 20 ساعة بالقطار.

سابعاً: اصطفاف دول البلطيق بقوة وبلا تردد مع أوكرانيا ضد روسيا يهدد بتوسع الحرب ناحية دول حول البلطيق الثمانية مع روسيا، فهذه الدول تشكل مع الولايات المتحدة وبريطانيا «الصقور» في دعم كييف ضد موسكو في الحرب الروسية الأوكرانية، وتقدم كل ما تستطيع من أجل إفشال الأهداف الروسية في أوكرانيا، ويكفي الإشارة هنا إلى أن بولندا ودول بحر البلطيق الثلاث هي أول من أرسلت السلاح لأوكرانيا وطالبت بعزل روسيا عن نظام السوفييت ووقف استيراد الغاز من موسكو.

منذ غارات الفايكنغ على شمال غرب روسيا قبل نحو 1000 عام استمر الصراع للسيطرة على بحر البلطيق، لكن كان هناك هدوء نسبي خلال العقود الثلاث التي أعقبت انهيار الاتحاد السوفييتي، واليوم في ظل رفض روسيا لاقتراب الناتو من حدودها، وتحول بحر البلطيق لبحيرة أطلسية، وتنامي الصراع حول «كالينينغراد»، وممر «سوالكي»، يجعل الصراع في هذه المنطقة يدخل مراحل جديدة تحتاج من المجتمع الدولي إلى البحث عن «مقاربة جديدة» تمنع تحول التنافس بين روسيا والغرب في البلطيق إلى «صراع وحروب» ساخنة.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3w43j8xn

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"