السياسات بين الفكر والممارسة

00:07 صباحا
قراءة 3 دقائق

حسام ميرو

لمفهوم السياسة تعريفات عدة، تمتدّ على مساحة واسعة من الحقول المعرفية والواقعية، لكنها تتقاطع في الاتفاق على الجانب السلوكي/ الإجرائي، إذ لا سياسة من دون ممارسات، بحيث تصبح الممارسات بحدّ ذاتها تعريفاً لمفهوم السياسة، ما يعطي الجانب العملي من السياسة أهمية أكبر من الجانب الفكري، أقله من حيث تحليل واقع ما تنتجه سياسة ما، فالفكر السياسي يفصح عن نفسه في الجانب العملي، خصوصاً في النتائج، أكثر مما يفصح عنه الجانب النظري المحض.

  وفي بعض الحالات، وهي أكثر من أن تحصى عبر التاريخ القديم والمعاصر، يسود نوع من الاعتقاد، في عالم الإنتاج النظري حول السياسة والسياسات، بأولوية ما هو فكري على ما هو سياسي، ولا يزال جدل الفكر والسياسة قائماً في إنتاج تعارضات عدة، بل واصطفافات بين النخب، لا تقوم على التقييم المعرفي فقط، بل على مصالح متناقضة بين المدافعين عن أولوية الفكري، وبين المدافعين عن أولوية الممارسة السياسية، مع أن رؤية كلا الفريقين تنطوي على الجانبين الفكري والسلوكي معاً، لكن مع تباين في المواقع، وتباين في درجة التأثير.

  في وضع هذا الجدل بين الفكر والممارسة على طرفي نقيض، تكمن رؤية مانوية، تقسم العالم إلى خير وشرّ مطلقين، لكن على الرغم من حدّية هذه المانوية في وضع حدود فاصلة بين الفكر والممارسة، إلا أنها تخدم الطرفين في الدفاع عن نفسيهما، في أن يقدّم كلّ منهما مبرراته المقنعة على الدوام، أي أنها تبقي عالم الإنتاج النظري في حالة اشتغال دائم على نقد مساراته وتقييم نجاحاته وفشله، وكذلك عالم الممارسة السياسية.

  ما ينبغي عدم تجاهله في هذا الجدل هو عالم الإنتاج الإنساني، فالفكر والممارسة ينتميان معاً، إلى هذا العالم، الذي يقيم حدّين واضحين، على عالمي الطبيعة وما وراءها، ويعيد تصويب البوصلة دائماً، انطلاقاً من عالم الإنتاج الإنساني الذي يمتلك آليات مختلفة عن العالمَين الآخرين، عالم الطبيعة، وعالم ما وراء الطبيعة، وميزة عالم الإنتاج الإنساني أنه عالم إنتاج مقوّمات الوجود، التي تمنع انقراض الحياة التي نعرفها.

  السؤال المتبنّى من قبل المدافعين عن أولوية الفكر على الممارسة، هو: هل هناك ممارسات سياسية لا تنطوي على فكر/ رؤية؟ أما المدافعين عن أولوية الممارسة، فيتبنون سؤالاً مضاداً، وهو: هل ثمة تصوّر منفصل عن الممارسة؟

  السؤالان يمتلكان مشروعيتهما، وتبدو الإجابة كامنة في الطريقة التي يطرح بها السؤالان، لكن الإجابة الأولية، أو ما تبدو أنها بدهية، تنطوي على شيء من الخدعة المعرفية، إذ إن ما يسقط من السؤالين هو سؤال الآليات التي ينتج بها كلّ منهما نفسه، والتي تتضمّن، من جملة ما تتضمّنه، عاملي الأولويات والزمن، ففي عالم الفكر، يحرص المُنتج/ المفكّر على تطابق المنهج مع النتائج، وبناء سياق يتّسم بالعقلانية، وإنشاء الحجج المناسبة مع هدفه في الإقناع، وهذه الأخيرة، قد تنزلق، وهي غالباً ما تنزلق، من عالم المعرفة إلى عالم الأيديولوجيا، فتخرج عن نطاقها، لتتحوّل إلى شعارات.

 وفي عالم الإنتاج الفكري المحض، يبدو عامل الزمن غير قابل للقياس، إذ لا يمكن التكهّن بالزمن الذي تحتاج إليه الفكرة لكي تتحوّل إلى واقع، على الرغم من عقلانيتها ومنطقيتها، بل على الرغم من وجود حاجة ماسّة لها في الواقع، فمثلاً، أن الفكر السياسي الذي يفنّد، ويؤكد حاجة الدول متنوعة الأديان والذاهب إلى نظام حكم لا طائفي، ليس منطقياً وعقلانياً فقط، بل هو حاجة ملحّة للواقع، لتجنّب الحروب الأهلية، لكن هذا الفكر الموجود في منطقتنا منذ أكثر من قرن، لم يمنع فعلياً تلك الحروب من الاشتعال.

  تنحاز الممارسة السياسية إلى التنظيم والنتائج، أي إلى العمل والتأثير في المعادلات الموجودة في الواقع، وهي في ذلك، تنحاز إلى مصلحة فئة محدّدة من الناس، في واقع محدّد، وتعمل على تجيير الواقع لخدمة مصالحها، أي تشكيل الواقع بما يتطابق مع مصالحها، ما يعني امتلاك أدوات مناسبة للأهداف، وفي مدى زمني محدّد، وإمكانية قياس المتحقّق وغير المتحقّق من الأهداف.

 وفي مطابقة الأهداف مع النتائج، غالباً ما يلقي المفكّر اللوم على عدم ذهاب الواقع إلى تبنّي أهدافه، أي تصوراته، بينما يراجع الممارس السياسي سلوكاته، أي طريقة عمله وأدواته، لاكتشاف مكامن الخلل والقصور، وفي هذا الجانب، يمكن القول إن الممارسة السياسية، بكل ما تنطوي عليه من مخاطر، ومنها الوقوع في التجريب، تبدو أكثر تفهّماً لعالم الإنتاج الإنساني من عالم الفكر، وهذه المسألة، هي بالضبط ما يحفّز الفكر على إعادة النظر في نظرياته وطروحاته.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/ymu7s2ne

عن الكاتب

إعلامي

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"