ترامب يمسّ بصورة الغرب

02:29 صباحا
قراءة 3 دقائق
محمود الريماوي

بين ردود الفعل المميزة في الغرب على تغريدات الرئيس الأمريكي دونالد ترامب ضد أربع نائبات ينحدرن من أقليات، جاءت تصريحات المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل، التي قالت: «أود أن أنأى بنفسي بحزم (عن هذه الهجمات)، وأنا متضامنة مع النساء اللواتي تعرضن للهجمات». وعلى الرغم من أن ميركل تتجنب التعليق على شؤون داخلية تخص دولاً أخرى، إلا أنها خرجت لتؤكد أن التغريدات التي دعا فيها ترامب النائبات إلى العودة إلى بلادهن «تتعارض مع ما يجعل أمريكا عظيمة».
في واقع الأمر أن الشطط والتهور في تغريدات ترامب، هي التي تحمل زعماء متحفظين في العادة للخوض في أمور داخلية أمريكية. علماً أنها ليست مسائل داخلية محضة، فالغرب الليبرالي يقوم على الاعتراف بالآخر، ولا يتوقف عند عرقه ومعتقده الديني. وألمانيا هي جزء من هذا الغرب، وتصريح ميركل ينطوي على هذه الرؤية، فيما الولايات المتحدة تتسنم موقع زعامته. والحال أن ترامب بتغريداته، يمس بصورة أمريكا، كبلد صنعه المهاجرون من أصقاع شتى (دون نسيان الكارثة التي تعرض لها السكان الأصليون: الهنود الحمر). وإذ يتماهى ترامب مع نزعات شعبوية، على نحو لا سابق له في التاريخ الأمريكي الحديث، فإن بقية الغرب المتحضر يرفض الانجرار وراء هذه الاندفاعة العكسية، التي تهدد المكتسبات الفكرية والقانونية والوزن المعنوي للغرب، فضلاً عن موجة الغضب إزاء هذه التصريحات التي عبرت عنها صحف أمريكية رئيسية.
ليست ميركل سليلة مهاجرين كما هو ترامب نفسه! ومع ذلك فإن وازعاً أخلاقياً حدا بها للخروج عن تحفظها المعهود، حيث أطلقت تصريحاتها هذه، من غير أن ترتجف. وربما كان ثمة باعث خفي لهذه التصريحات كون المستهدفات الأمريكيات من بنات جنسها. غير أن النسوية ليست موضوعاً يشغل بال المستشارة الألمانية، لا هي ولا رئيسة وزراء بريطانيا تيريزا ماي التي وصفت تغريدات ترامب بأنها غير مقبولة مطلقاً. وماي تنتمي لحزب المحافظين (تخلت مؤخراً عن رئاسة الحزب)، وليس للحزب الليبرالي في بلادها. والعلاقات بين بريطانيا والولايات المتحدة في أحسن أحوالها، إلا أن رئيسة الوزراء المقلّة في التصريحات لم تطق الصمت على ما بدر من الرئيس الحليف في البيت الأبيض. وكذلك كان الحال مع رئيسة وزراء نيوزيلندا جاسيندا أرديرن التي نددت بالتصريحات، وأثنت على واقع التعددية العرقية في بلادها وفي الولايات المتحدة.
ومن حسن الطالع أن المسؤولات الغربيات الثلاث نجحن في مواقفهن هذه في إعادة التوازن وإعادة الاعتبار لصورة الغرب، ومن غير إغفال الدور الذي تلعبه رئيسة مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي في التصدي لشطحات الرئيس ترامب، وذلك وفق ما تسمح به لوائح الكونغرس وقوانين البلاد. فلا يبقى أمام الرئيس ترامب سوى أن يشن حملة على تسنّم النساء مواقع قيادية في أمريكا والغرب، وله في ذلك أن يستحضر تنافسه على الرئاسة مع هيلاري كلينتون، وحيث جاء فوزه مشوباً بالشوائب! فنزعة التمييز والإقصاء والانغلاق على الذات لا تتوقف عند حد، حين تهيمن على صاحبها وتتحكم بانفعالاته الهائجة وتصوغ رؤاه الضيقة.
في ما مضى من حقب كانت الزعامة الأمريكية تجد من يساجلها على الساحة الدولية في عهد القيادات المعنوية لزعماء من دول عدم الانحياز، لكن الدنيا تغيرت في العقود الثلاثة الماضية، وبات الانحراف نحو اليمين المتطرف لا يجد من يساجله سوى زعامات من الغرب نفسه، من الأوفياء للصورة وللقيم الليبرالية، كما هو حال المستشارة الألمانية ميركل، بل إن بعض أطراف اليمين تستنكر الاندفاع نحو التطرف كما هو حال تيريزا ماي وزعماء آخرين هنا وهناك. هذا مع الإقرار بأن الساحة الدولية باتت تفتقر إلى زعامات ذات مكانة معنوية كبيرة مثل نيلسون مانديلا وأنديرا غاندي ممن كانوا يشكلون بوصلة أخلاقية لعالم السياسة وينجحون في مخاطبة الرأي العالمي في كل مكان. في زماننا يخاطب رئيس الدولة العظمى ترامب قاعدته الانتخابية الضيقة من المتعصبين البيض أو المتزمتين دينياً فقط، ممن يحلمون بإعادة عقارب الساعة إلى الوراء.. إلى ستة عقود على الأقل، حين كان التمييز ضد الملونين وبقية الأقليات أمراً مألوفاً ومعهوداً قبل أن يمنح الدستور الأمريكي سائر المواطنين حقوقاً متساوية، ويمنع أي تعديلات تمس بهذه الحقوق. وبهذا فإن الرئيس ترامب يجازف من دون أن يرف له جفن بسلب بلاده أفضل ما فيها في أنظار قطاعات واسعة من الرأي العالمي.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

كاتب ومعلق سياسي، قاص وروائي أردني-فلسطيني، يقيم في عمّان وقد أمضى شطرا من حياته في بيروت والكويت، مزاولاً مهنة الصحافة. ترجمت مختارات من قصصه إلى البلغارية والإيطالية والإنجليزية والفرنسية

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"