في الحاجة إلى مجتمع مدني عربي

04:42 صباحا
قراءة 3 دقائق
حسام ميرو

عرفت أوروبا بعد الحرب العالمية الثانية تطوراً كبيراً في مفهوم المجتمع المدني، وقد استند هذا المفهوم إلى منجز معرفي أوروبي واسع في الفكر السياسي، فقد خاضت أوروبا منذ القرن السادس عشر نقاشاً فكرياً حول مفاهيم تأسيسية، من مثل الدولة والحرية والعقد الاجتماعي، وغيرها من المفاهيم المرتبطة بتنظيم الحياة الاجتماعية، وجاءت الحاجة إلى مفهوم المجتمع المدني ضمن سياق متصل بتنمية المجتمع، وبناء منظومات تدافع عن قضايا اجتماعية واقتصادية وحقوقية متعددة الأوجه، كما أن المجتمع المدني، وعلى الرغم من كل التطور المفاهيمي والتنظيمي الذي أحرزه بقي مرتبطاً بالسياسة بطريقة أو بأخرى.
مناسبة الخوض في الحاجة إلى مجتمع مدني عربي تنبع من مستويات عدة، وأهمها إخفاق البنى السياسية العربية، خلال النصف الثاني من القرن العشرين ولغاية اليوم، في النهوض بواقع مجتمعاتها، بل واحتكار السلطات العربية للفضاء العمومي، وسدّ الطريق أمام نمو حركات اجتماعية منظمة، تتمتع بمستوى عالٍ من الاستقلالية عن الحكومات، فقد نسفت معظم السلطات العربية مقومات الاجتماع، عبر هيمنة واسعة على المجتمع نفسه، من خلال أجهزتها التنفيذية، وعطّلت منظومة القوانين التي تسمح بممارسة النشاط العمومي المنظم، أو أخضعت تلك القوانين لجملة من التعقيدات البيروقراطية، أو أفرغتها بطرق مختلفة من مضامينها.
في الأعوام القليلة الماضية، عانت الدولة الوطنية في العالم العربي من مأزق وجودي، فبعض الدول فاجأتها رياح التغيير، فلجأت إلى ما تمتلكه من فائض العنف في مواجهة المجتمع نفسه، في سياق معادلة خاسرة مسبقاً، خصوصاً أن المجتمعات العربية لم تعرف في تاريخها الحديث عمليات تنظيم مجتمعي واسعة، من مثل الأحزاب والنقابات والاتحادات والجمعيات غير الحكومية، وحتى الدول التي عرفت في الخمسينات والستينات من القرن الماضي صعوداً للحركات السياسية والنقابية عرفت لاحقاً تراجعاً كبيراً فيها، في ظل هيمنة السلطة السياسية، وتفريغ العمل السياسي المعارض أو النقابي من مضمونه.
كان يمكن لوجود مؤسسات سياسية أو نقابات فاعلة في بلدان ما يسمى «الربيع العربي» أن تلعب دوراً مهماً في تخفيض المأزق الوجودي إلى مستوى الأزمة، أي جعل حركة التغيير قائمة ومستمرة في سياقها المطلبي التاريخي، ومنعها من الانزياح نحو العنف، وعدم السماح لقوى خارجية بالركوب عليها واستثمارها، لكن افتقاد هذه البلدان إلى تلك الحركات جعل السلطة السياسية وأجهزتها التنفيذية في مواجهة فئات اجتماعية غير منظمة.
لقد شنّت هجمات واسعة ضد المجتمع المدني العربي ومؤسساته من قبل السلطات العربية قبل «الربيع العربي»، وقد وجهت اتهامات كثيرة لبعض الشخصيات الفاعلة فيه، وجلّ تلك الاتهامات تتعلق بتمويل مؤسسات المجتمع المدني من قبل جهات مانحة غربية، أو تبني تلك المؤسسات لأجندات خارجية، والسؤال الذي يطرح نفسه هو: هل تسمح القوانين في العالم العربي بإنشاء منظمات مجتمع مدني مستقلة؟
إن وجود منظمات مجتمع مدني مستقلة، متخصصة بشؤون ومصالح الفئات الاجتماعية المختلفة، أو متخصصة بمطالب محددة، مثل الحريات العامة والفردية، أو المنتديات الفكرية الحرّة، من شأنه أن يوفّر أجواءً صحية لنمو النقاش العام، وتطوير المقترحات والبرامج، وجعل النضال المطلبي قائماً في سياقه، وبلورة قيادات نقابية مسؤولة وذات حسّ وطني عالٍ، وهو ما يؤسس لأرضية تفاعلية بين السياسي والمدني، من شأنها أن تضمن أفضل مستوى ممكن من المسؤولية المتبادلة بين طرفي المعادلة.
إن سياق العنف الذي وصلت إليه بعض الدول يجعل من الضرورة بمكان مراجعة سياق تطور الدولة الوطنية العربية، وقراءة مستويات الفشل العديدة التي أصابتها.
ومن نافل القول أن معظم الدول والمجتمعات العربية تعاني أزماتٍ اقتصادية وسياسية داخلية وخارجية، وبالتالي فإن حاجة الفئات الاجتماعية للتعبير عن أزماتها تتزايد، وهو ما يجعل من تطوير فضاء المجتمع المدني وتبني قوانين وطنية حديثة لتنظيم مؤسساته أمراً في غاية الأهمية، لتجسير الهوّة بين السياسة والمجتمع.

[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

إعلامي

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"