قائمة أولويات التاريخ

00:10 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

عندما نقلّب صفحات كتاب «قصة العادات والتقاليد وأصل الأشياء» لتشارلز باناتي سنجد أن 90 % من أصول أهم الأشياء في حياتنا اليومية من ابتكار رجال ونساء الظل: أدوات المائدة والمطبخ، مكونات المنزل، الحمام، وسائل النظافة، طرائق تربية الأطفال، الملابس، تصميم الغرف، ألعاب الأطفال، عادات وتقاليد حفلات الزفاف، فنون التزيين، الهدايا، بعض الأعياد..الخ. ويكفي هنا أن نطالع مثلاً مسألة إنارة المنازل والشوارع، تلك القصة الطويلة التي بدأت بفتيلة مجدولة من الألياف تبقى مشتعلة إذا ما أشبعت بالدهن، وتم ابتكارها قبل 50 ألف عام، مروراً بقناديل الزيت في مصر القديمة وثورة الشمعة التي عرفتها روما القديمة في القرن الأول للميلاد وحتى مصباح أديسون الذي سبقته محاولات استمرت لأكثر من نصف قرن من بعض المغمورين لاختبار سبل الإنارة بالكهرباء.

  لم تهتم كتب التاريخ بهؤلاء البسطاء من المبتكرين أو من يطلق عليهم دائماً «رجال الظل»، ولم تلتفت إليهم أيضاً مرويات الأساطير، كان لا بدّ أن ينسب الابتكار الجديد والحيوي إلى بطل أو كاهن أو ساحر أو زعيم، حُرم «رجال الظل» من بضعة سطور في كل هذه السرديات الطويلة ليستظلوا بها، وذلك حتى في أشد أوقات طنطنة المفكر والمؤرخ بالحرية والإخاء والمساواة. 

ولكن عندما نتناول الشوكولاته أو الحلوى، علينا أن نتذكر عشرات الملايين من العبيد الذين ماتوا في مزارع السكر من القرن السادس عشر وحتى التاسع عشر في الأمريكتين، البعض يصل بهم إلى 7 ملايين إنسان، وعندما نرتدي ملابسنا فلا يمكننا أن ننسى الطبيعة الاستعمارية للقطن، وعندما نتناول طعامنا سيلحقنا طيف حروب التوابل، وعندما نستقل أي سيارة أو دراجة أو طائرة علينا أن نعرف أن نحو ستة ملايين كونغولي ماتوا من العمل في ظروف لا إنسانية بين عقدين فقط من 1885 و1908 في صناعة المطاط سيئة السمعة خلال الاستعمار البلجيكي.

   تفاعل التاريخ مع تلك المآسي وغيرها: في الفلسفة والأدب والاقتصاد والشعر، ولكنها تفاعلات ظلت برسم النخب، تصدر من كتابات تتباكي على ملايين البشر الذين لا نعرف أسماءهم، وربما لا توجد لهم شواهد قبور أو ما يدل على أنهم كانوا هنا في أحد الأيام، لقد سقطوا حتى من هامش مدونة التاريخ.

  كان التاريخ دوماً شغوفاً بالمعارك والمؤامرات والتحولات السياسية وصراع الطبقات، كان ساحة للأبطال الذين كانوا يحركون الأحداث ويلعبون بالوقائع، أو رؤية تحلل حراك شرائح المجتمع، أو أطروحة تركز على مسارات الأفكار، اهتم التاريخ بكل هذه المفردات حتى وصل إلى المناخ كعامل مفسر لنشأة وانهيار الحضارات، ولم يضع البسطاء أو المهمشين أبداً على قائمة أولوياته. 

  لم يكن للتاريخ من هامش، فهذا العلم لا يعترف إلا بالمتن، حضارات بأكملها اندثرت، وحضارات أخرى ظلت شواهدها حتى الآن عصية على الفهم، عرضة للتأويل، وحضارات أبيدت أو أُسكتت تماماً وكأنها لم تكن، وحضارات دوّن أمجادها المنتصرون، وبشر منسيّون كانوا دائماً وقوداً لتلك الحضارات.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3bpfwwuw

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"