رؤية خلدونية

00:05 صباحا
قراءة دقيقتين

ثريّة هي العلاقة بين العروبة والإسلام. عنها وضعت دراسات ونشأت مذاهب في البحث والدراسة، ويمكن الانطلاق من حقيقة أن العروبة، كانتماء قومي، سابقة للإسلام، كانتماء ديني، بمعنى أن العرب كانوا موجودين قبل أن يظهر الإسلام في الجزيرة العربية، وأبلغ مظهر لذلك هو أن القرآن الكريم نزل بلهجة أشهر القبائل في حينه، قبيلة قريش، أي أن الحاضنة اللغوية والثقافية العربية للدين الجديد كانت متيسرة، ولم يكن متعيناً عليه أن يؤسس لغة جديدة تكون بمثابة الرافعة له ليصل إلى من دخلوه في حينه أو لاحقاً، في الجزيرة العربية نفسها أو خارجها، مع بدء عصر الفتوحات الإسلامية.
وهنا نقف على الوجه الآخر لهذه العلاقة الثرية، فالإسلام منح العروبة ولغتها، فرصة لانتشار واسع ما كان سيتحقق لها لولا ظهوره وانتشاره، وأكثر من ذلك منحها محتوى أعمق وأغنى بالمعاني والمضامين، وربما بالمفردات أيضاً، فأصبحت حاملة لمعارف جديدة، أتتها أولاً مما تضمنه القرآن نفسه من معانٍ ومضامين، وثانياً من تفاعلها مع الأقوام الأخرى التي دخلت الإسلام، وبعضها كان قد بلغ مستويات من التقدم الحضاري السابق بكثير لما كان قائماً في الجزيرة العربية لحظة ظهور الإسلام.
وهذه النقطة بالذات هي ما استوقفت عبد الرحمن بن خلدون في «المقدّمة» حين لاحظ أن ناقلي العلوم في الحضارة الإسلامية كانوا من غير العرب، ولكنهم نقلوا هذه العلوم بالعربية، التي أصبحوا ناطقين بها بعد أن بلغ الإسلام ديارهم، وفي تقديره أن السبب هو أن الإسلام في بداية ظهوره انتشر أولاً في محيطه الجغرافي الأقرب، أي في المجتمعات القبلية السائدة في الجزيرة العربية التي اعتادت أن تهتم أساساً بأمور المعيشة، نظراً لمحدودية ما هو متيسر لها من موارد وثروات، على خلاف وضع بقية أقوام أخرى دخلت الإسلام، وتنتمي إلى مجتمعات حققت شأناً أعلى في مجالي العلوم والصنائع.
هذا لا يعني أن الجزيرة العربية كانت قفراً من المعارف والأدب عشية ظهور الإسلام، وحول ذلك قيل الكثير، ولكن الأمور تؤخذ في نسبيتها، وتعرف بالمقارنة بما هو نظير لها، ويمكن أن نجد في الفقرة التالية من «مقدّمة» ابن خلدون ما يمثل إضاءة لفكرته تلك، حيث كتب يقول: «إن العلوم تكثر حيث يكثر العمران وتعظم الحضارة، والسبب في ذلك أن الصنائع إنما تكثر في الأمصار، وعلى نسبة عمرانها في الكثرة والقلة والحضارة والترف، تكون نسبة الصنائع في الجودة والكثرة، لأنه أمر زائد على المعاش، فمتى فُضّلت أعمال أهل العمران عن معاشهم انصرفت إلى ما وراء المعاش من التصرف في خاصية الإنسان وهي العلوم والصنائع».
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2b46h9w8

عن الكاتب

كاتب من البحرين من مواليد 1956 عمل في دائرة الثقافية بالشارقة، وهيئة البحرين للثقافة والتراث الوطني. وشغل منصب مدير تحرير عدد من الدوريات الثقافية بينها "الرافد" و"البحرين الثقافية". وأصدر عدة مؤلفات منها: "ترميم الذاكرة" و"خارج السرب" و"الكتابة بحبر أسود".

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"