عادي

تجارب عابرة للثقافات

23:48 مساء
قراءة 5 دقائق
«منوعات زخرفية» لجوليا إبيني وستيفان نوير

الشارقة: عثمان حسن

تضمن مهرجان الفنون الإسلامية ال 25 مجموعة جديدة من الأعمال التي قاربت شعار «تجليات» وتوزعت بين تيارات الفنون المختلفة من كلاسيكية وفنون حداثية ومعاصرة، وبرز واضحاً في هذه الأعمال اشتغالها على التجربة الذاتية واللاشعورية بما تنطوي عليه من محمولات رمزية وروحية.

بعض هذه الأعمال استندت إلى سرديات التاريخ وما فيه من تراث مادي ومعنوي، بهدف ربط الماضي بالحاضر، هذا الحاضر المشحون بالتحولات والاضطرابات التي تؤثر في الأفراد والكيانات المجتمعية بدرجات متفاوتة.

اشتملت الأعمال الفنية المشاركة في المهرجان على ثيمات وموضوعات مختلفة، كما استدعت فنون العالم القديم، وبخاصة العالم الإسلامي، بهدف تقديم رؤى تسبر أغوار الذات من خلال تجارب فنية عميقة.

«متاهة المرايا» هو عنوان العمل الذي تقدمه الشاعرة والفنانة المفاهيمية الإنجليزية سامينا فيراني، حيث ينطلق العمل من فكرة الذكر والدعاء، وهي تجربة ذاتية ولاشعورية وأيضاً رمزية بما تحمله صوفية، وهذا العمل نتاج مجموعة من التجارب والأبحاث الأدائية التي اشتغلت عليها الفنانة على مدى سبع سنوات تخللتها فترات انقطاع وصمت امتدت لنحو عشر سنوات قضت جلها في الصحراء منغمسة في رحلة من التأمل العميق مارست خلالها تجربة الذكر والدعاء فقادتها هذه التجربة الأثيرة والمتفردة إلى سبر أغوار ذاتها من خلال رحلة ساحرة.

والعمل يمزج بين مبادئ الهندسة الإسلامية ومتتالية فيبوناتشي، وهي سلسلة رياضية نسبة عالم الرياضيات الإيطالي ليوناردو فيبوناتشي.

بالنسبة لسامينا فإن هذا العمل يمثل تجربة تمزج بين التركيب والشعر مصورة في الصحراء حيث صممت مرايا زجاجية مصقولة بالرمل وذات اتجاهين تسمح للمشاهد بسبر الداخل ورؤية الخارج في آن واحد، والعمل من خلال الخيوط المضاءة المعلقة من أعلى إلى أسفل يشي بالرموز التي تنساب مع تأثيرات المسار الهندسي بتسامي الروح و«التجلي» انسجاماً مع فكرة المهرجان.

في التفاصيل، تشتغل الفنانة من خلال عملها هذا على فكرة النقطة والدائرة، تنطلق النقطة من حالة التواجد في الصحراء، وهذا بالنسبة لسامينا يكشف عن الذات المفردة للإنسان، أما الدائرة فترمز إلى الوجود الكلي، حيث إن الخيوط المترابطة أو المتصلة تسمح بنشوء إيقاع التجلي وتكشف عنه، وتخلق هذه العملية عبر هذه المتوالية تلك الألغاز الخفية غير المرئية في النفس البشرية، هذه النفس التي تتصل مع (الآخر) وصولاً إلى التجلي المادي الظاهر لبلورة مكتملة التكوين (اللقاء والتجلي).. وواضح أن سامينا في عملها هذا تستفيد من فضاء الفن الإسلامي وما يمنحه من جماليات بصرية، حيث تصير النقطة بعبارة أخرى تعبيراً عن الكائن الصغير المتناهي في الصغر، المدغم في الفاعلية الكونية الشاملة، أي في (الوجود الكوني).

زخارف

البحث في أصل الأنماط والتشكيلات الزخرفية وتتبع انتقالها عبر الزمن وبين الثقافات والقارات، أو عبر التجارة أو التبادل الثقافي، هو ما يشغل اهتمام الفنانة جوليا إبيني التي تنقلت بين المملكة المتحدة وفرنسا والأردن، وفي عملها المشترك مع عالم الكمبيوتر ستيفان نوير الذي يركز على الهندسة الحسابية، قدما معاً في المهرجان عدة أعمال، حيث جمعا زخارف شتى بتصاميم متنوعة تاريخياً وجغرافياً ضمن قطعة واحدة.

في عمل بعنوان «المسافة بين الصفر والواحد» تتحول الرسومات اليدوية إلى هياكل شجرة حسابية وخرائط تطبق فيها نظرية الرسم البياني والخوارزميات الاحتمالية، وفي عمل بعنوان «التحف المتمردة» تساعد الأفكار الرياضية في إنشاء أعمال نحتية معقدة تتحول فيها المواد المسطحة إلى أشكال ثلاثية الأبعاد تستخدم تقليدياً في مجالات مثل التصنيع أو بناء القوارب أو رسم الخرائط. الأسطح القابلة للتطوير في هذه القطع تستخدم لتصميم وبناء شكل مزهرية منحوتة من أوراق مقصوصة بالليزر، فيبدو الشكل النهائي مثل العاج المنحوت.

في عمل ثالث بعنوان «منوعات زخرفية» تم تجميع جزيئات من العمل الأصلي وتشكيل عناصر عضوية مرسومة يدوياً وتشبه حديقة ضخمة نمت فيها الأشجار والأزهار والنباتات ببطء لتتجاوز تنسيقها السابق، وقد طورت الفنانة تقنيات كولاج لتجميع العمل النهائي على أرض الواقع.

والفنانة جوليا إبيني هي فنانة بصرية ومصممة ذات خبرة في مجال رسوم الجرافيك، أسست استوديو إبيني، حائزة جوائز عدة في مجال التصميم والفنون والحرف المعاصرة، تعاونت مع ستيفان نوير في إنتاج مشاريع مشتركة منذ 2017 واستكشفا من خلالها الأنماط والزخارف باستخدام الهندسة والخوارزميات والتصنيع الرقمي.

عمق

وباستخدام ألواح مطلية بالأكريليك تطور الفنانة الإنجليزية سارة شودري من خلال عملها الذي جاء بعنوان «البوابة» ثلاث حلقات مقصوصة، ومنقوشة، منفصلة عن بعضها بعضاً، وتتناهى في الصغر لإعطاء انطباع بالعمق اللامتناهي.

تستخدم الفنانة سارة في هذه السلسلة من الحلقات تصميماً هندسياً إسلامياً نادراً ومتشابكاً ومتعدد الطبقات، بغية عرض تطور تقاليد التصميم الإسلامي خارج الحدود المتعارف عليها، ومن يدقق في هذا العمل يكتشف عمق التجليات الثاوية في هذا التصميم المتقن، الذي يعكس انشغال الفنانة سارة شودري بإجراء الدراسات التي تستشهد بالسلاسل والمجموعات التاريخية من مخطوطات ومحفوظات وتصاميم هندسية معمارية وتراثية.

تطرح الفنانة من خلال هذا العمل مدارات من الإبداعات التي تطلق عليها «الهجينة»، وذلك في إشارة إلى انفتاح الفنون على بعضها بعضاً، ليس ذلك فحسب، ففي عمق كل منجز فني، ثمة سردية ثقافية وتاريخية فنية، تؤكد حاجتنا الدائمة لمواصلة الحوار حول الآثار المادية وصلتها بالتراث والمجتمع.

ومن خلال عمل مغاير يحاول الفنان والأكاديمي الإنجليزي آدم ويليامسون مقاربة شعار «تجليات» من خلال مشاركته في المهرجان بعمل عنوانه «أنماط متغيرة»، وهو عبارة عن سلسلة من المنحوتات الجسية الدائرية المبنية على مبادئ الهندسة الإسلامية الكلاسيكية، بالاستناد إلى ما يعرف باللوالب المتعرجة التي تمثل الأساسيات الكامنة وراء الأنماط الإسلامية، واللوالب المتعرجة، وفي هذا العمل استخدم ويليامسون الأدوات التقليدية كالبوصلة والأزاميل لإنشاء أنماط فريدة استخدمت بكثرة في التقاليد الموجودة في جميع أنحاء العالم.

توفر الأشكال والتصاميم في «أنماط متغيرة» فرصة لتأمل تناغم دوران الكواكب من حولنا، وأيضاً تأرجح الموجات الصوتية بالتتابع، وكذلك إيقاعات ودورات الغلاف الجوي من حولنا بانتظام، حيث تظهر جميع هذه الأنماط مترابطة، وتظهر في كل مكان في العوالم المرئية وغير المرئية.

شاعرية الفن

وفي عمل للإنجليزي من أصل إيراني سعد قريشي، تحت عنوان «تانابانا»، يعيد الفنان الاعتبار إلى صناعة المنسوجات والقماش في الحضارة الإسلامية، منطلقاً من تراث هذه الصناعة في بلده إيران.

وهنا، لا بد من التذكير بأن كثيراً من المناطق والحواضر التي أصبحت تستظل بمظلة الإسلام قد عرفت صناعة المنسوجات وصارت من أهم الصناعات عندها، كما هو في بلاد ما بين النهرين ومصر ومناطق آسيا الوسطى في خوزستان وطبرستان وأفغانستان، كما عرفت خيوط الحرير لقربها من الصين، ومن المهم هنا، التذكير بكتاب موريس مومبار «الإسلام في عظمته الأولى» الذي أطلق على الحضارة الإسلامية حضارة نسيج، بما اشتهرت به من لباس وأنسجة.

يقدم قريشي تنويعات مختلفة من المنسوجات بوصفها أعمالاً فنية تتطلب مهارة فائقة، فهو عاش في منزل عائلته وهو يشهد نمو هذه الصناعة بوصفها كانت تشكل مصدر دخل لأسرته، وحين هاجر إلى إنجلترا ودرس الفنون الجميلة في جامعة أكسفورد، بدأ قريشي يقدم الكثير من المنحوتات التي تتضمن أفكاراً وقصصاً تضفي الكثير من المعاني في صلتها بالوجود الإنساني، وفي مهرجان الفنون الإسلامية، يعيد قريشي تقديم هذه الصناعة بصياغات فنية مختلفة من خلال نماذج متعددة من المنسوجات التي قصها ضمن شرائح، وشكل منها أعمالاً فنية غاية في الإتقان والشاعرية، وبعضها يحاكي شجرة الحياة، وبعضها الآخر يحاكي كثيراً من المعتقدات البشرية، فهو لا يكتفي بالمادة الخام لهذه الصناعات بوصفها تنم عن حرفة ومهارة للعيش فحسب، بل يعيد تشكيلها كمادة فنية وفكرية قابلة للنقاش والتداول، وربط الحاضر بالماضي، كما يستلهم من خلالها شعار المهرجان «تجليات» في تأكيده على أصالة وقوة الفنون الإسلامية، وأثرها المستمر عبر القرون.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/2k7sxfke

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"