شرشف من الضباب

00:03 صباحا
قراءة دقيقتين

صحوت أمس مبكراً على «شرشف» أبيض من الضباب. وربما كانت حالة تفاؤلية بالنسبة إلى شخص له نزوع فطري نحو كل ما هو شعري، غير أن بعض الناس لا يحبّون الضباب، ولقد فزعت ذات يوم حين قال لي أحدهم إنه لا يحب المطر، فما هذه الأرواح يا ترى؟ اسأل شاعراً ولا تسأل (بليداً) وسوف يخبرك الشاعر أن الضباب سُكّرٌ أبيض ناعم مرشوش في الأفق القريب من الأرض.. هكذا مجاناً، وربما من أجل أن تكون روحك ناعمة، سكرية، بيضاء..
يكفي إلى هنا، واتركك من الشعر، وتعال إلى الباحث ستيفن كونور، أستاذ اللغة الإنجليزية في جامعة كمبردج، واقرأ في كتابه «مادة الهواء»، إصدارات «كلمة» ٢٠١٩، تأمّله الظاهراتي للضباب والذي يسمّيه «الضباب الرقيق»، لأن هناك ضباباً دخانياً. وأياً كان شكل ونوع الضباب، فإن مادّته الغموض أساساً كما يرى كونور، وعليه، فلا عجب أن نسمع شخصاً يقول عن آخر إنه «ضبابي» كناية عن غموضه.
يرى كونور أيضاً في كتابه العلمي والثقافي ذاك، أن الضباب نوع ممّا سمّاه «الضوضاء البصرية»، ولكنها ضوضاء صامتة جميلة في رأيي ويقول:هنالك الضباب الرومانسي (تذكر معي عبدالحليم حافظ ونادية لطفي في شارع الضباب).. يقول: إنه ضباب رقيق لا ينتمي بالكامل أو تماماً إلى الحقبة التي نعرفها باسم «الرومانسية»، ويضيف كونور أن هذا هو ضباب الفتنة أو ما سمّاه «الألق المنشور».
ربما يكتب كونور بشيء من المبالغة حين يقول إن «الضباب إفساد للمكان والتمايز المكاني.. الضباب يتسلل في كل شق داخلاً وخارجاً منه، مُحيلاً كل ما هو أرضي إلى محمول جَوّاً». ويواصل كونور غموضه التأمّلي وهو في قلب الضباب، يقول: «الضباب الرقيق تعقيد للضوء: فهو الضوء الذي يستحيل بغموض إلى شيء مرئي.. وفي الضباب الرقيق، يتضخّم الضوء ويتخثر في آن واحد في احتباسه الكثيف الأثيري».
كان إدوارد سعيد معجباً بالروائي جوزيف كونراد بخاصة في روايته «قلب الظلام»، غير أن كونور يقرأ أعمال كونراد من وجهة نظر مختلفة. يقول«يمكننا أن نجد التذبذب بين الضوء والضباب والإشارة والضجيج والبزوغ والاحتجاب في أعمال جوزيف كونراد، فقد أصرّ بالطبع على أن مهمة الكاتب هي أن (يجعلك ترى)».
يقارب كونور بين الثقافة والطقس، يقول إنهما يسيران على مسارين متوازيين، وكل منهما استعارة للآخر، وإن للطقس زمانية لكن ليس له تاريخ.
بالتالي، إذا أردت استنتاج فكرة ولو صغيرة من غموض كونور أو من غموض الضباب، فهي أنه لا تاريخ للضباب شأنه شأن الظواهر الطقسية الشفافة مثل الضوء والغيم والدخان.
والمهم، أخيراً، أن لا تكون ضبابياً أنت أيها الإنسان الجميل المخلوق من ماءٍ وتراب.
[email protected]

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
http://tinyurl.com/yc42rhzh

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"