عادي

هل انتهت الكتابة عن السفر؟

22:13 مساء
قراءة 6 دقائق
هل انتهت الكتابة عن السفر؟

القاهرة: مدحت صفوت

على الرغم من أن أدب الرحلات قديم قدم التنقل والأدب ذاته، أي منذ أن عرف الإنسان التعبير الأدبي والرحلة معاً، فإن الحديث عن فترات ازدهار وانتشار لهذا الجنس مسألة ممكنة جداً، خاصة مع كل تطور يخص طرائق السفر، وهنا يمكن الإشارة إلى ستينات القرن العشرين وما تلاها من ثلاثة عقود، يمكن وصفها ب«أزهى عصور أدب الرحلات»، عربياً وعالمياً.

ففي العالم العربي، ازدهرت أسماء من قبيل أنيس منصور ومؤلفاته، من بينها «حول العالم في 200 يوم»، و«بلاد الله.. خلق الله»، والذي يزور فيه عدداً من الدول حول قارات العالم المختلفة، ليثبت أنه لا فرق بين الناس في كل بقاع الأرض، فالكل ينشد راحة البال والسلام النفسي والسكينة. وسبق منصور الدكتور حسين فوزي طبيبٌ وأديب ورحَّالة مصري، المعروف ب«السندباد»، فضلاً عن موسى صبري وكتاباته في أدب الرحلة.

وغربياً، في منتصف الثمانينات، كانت الكتابة عن السفر في أعلى مستوياتها. وعرفت المكتبات الغربية كتبة أسطوريين متجولين حول العالم أمثال بروس تشاتوين، وجان موريس، وريدموند أوهانلون، وديرفلا ميرفي، ونورمان لويس، وجوناثان رابان، وهم ثلة من بين كثيرين آخرين ينقلون نسخاً في حقائب السفر المملوءة، بينما يلتهم القراء القصص من جميع أنحاء العالم.

  • ازدهار وانتشار

بالفعل، كانت مرحلة مشرقةً ومثيرةً لهذا النوع من الأدب، وفتحت الطائرات النفاثة الآفاق وانطلق المسافرون ذوو العقلية الأدبية بعيون مفتوحة على مصراعيها، بحثاً عن المغامرة واللقاءات والقصص، غالباً في مناظر طبيعية نائية، و«انطلقوا بحثاً عن حكايات ليرووها، وعادوا بقصص مؤثرة» على حد قول الكاتب البريطاني توم تشيشاير.

خلال هذه الفترة، وعندما زادت مبيعات إصدارات أدب الرحلة، نشرت المجلة الأدبية «جرانتا» عدداً مخصصاً لكتابة الرحلات بمساهمات من معظم كُتاب النوع، وبمشاركة غابرييل جارسيا ماركيز، وبول ثيرو، وكولين ثوبرون، وسول بيلو وآخرين. ومن تحرير واحد من أشهر المراجعين في ذلك التوقيت بيل بوفورد.

في مقدمته لعدد جرانتا المشار إليه، حاول بوفورد تحديد سبب افتتان الجمهور بالكتابة عن الرحلات أدبياً، مشيراً إلى أنه خلال فترة الصعوبات الاقتصادية، كما كانت الحال في أوائل الثمانينات، «كان من الممكن رؤية الحكايات الغريبة على أنها تحمل قيمة الكتب والأفلام ذاتها، على سبيل المثال، خلال فترة الكساد: وفرت الكتابات التحرر من الكراسي ذات الذراعين. وهو ما كان يبحث عنه القراء، إذ لم يكن من السهل الاتصال بالناس في ذلك الوقت دون الإنترنت، وكانت البهجة المطلقة لسرد القصص، بلاغةً سردية تضعهم، بغموض رائع، في مكان ما بين الخيال والحقيقة».

وفي الوقت نفسه، يعتقد بوفورد أن كتابة الرحلات نوع متطفل على الأدب، إذ «يستعير من المذكرات والتقارير، والأهم من ذلك، الرواية. ومع ذلك، فأدب الرحلة في المقام الأول رواية تُروى بضمير المتكلم، وموثقة بالتجربة الحية». لكن مسألة النوع لم يعد الحديث فيها ذا جدوى، إذ سقطت الحواجز بين الأنواع الأدبية، بل في عالم ما بعد الحداثة يمكن الحديث عن سقوط الفواصل بين الفنون والآداب المختلفة.

  • تراجع

ومع الوقت، ثمة تغيرات جرت في أدب الرحلة، ففي مقالة شهيرة للكاتب البريطاني توم تشيشاير عن أدب الرحلات، نقل عن الأكاديمي تيم هانيجان، المتخصص في هذا النوع من الكتابة، تراجع أدب الرحلة، إذ لم يعد يحظى بالإعجاب السابق نفسه، حتى تقلصت مساحات عرض هذه النوعية من الكتب في المتاجر وفقاً لهانيجان: «تراجعت ثلاث أقدام من الكتيبات الإرشادية ورحلات المشاهير». وبالتزامن مع ذلك تكافح الإصدارات لحجز مكان في أقسام المراجعة الأدبية في الصحف، وغالباً ما يجري تجاهلها، في جولات عيد الميلاد السنوية، على سبيل المثال.

الأمر ليس ببعيد عن تطور طرائق السفر، التي كانت باهظة الكلف والمشقة في الماضي، وباتت «يسيرة»، وتنهال العروض من شركات السياحة والطيران يومياً، إذ كان التخطيط لقضاء عطلة مطلع هذا القرن، يستلزم زيارة وكيل السفر المحلي. أو للمسافر الأكثر ميلاً إلى المغامرة، والمسلح بدليل إرشادي يعتمد على توصيات المقربين لتحديد أجندة سفره. حالياً، وبفضل التقدم التكنولوجي والإنترنت عالي السرعة، يمكن للمسافرين حجز رحلات الطيران والفنادق الخاصة في ثوانٍ معدودة، واختيار الإقامة من خيارات عدّة.

  • أسئلة عدّة

ماذا حدث؟ وماذا تعني تطورات التكنولوجيا بالنسبة إلى كتاب الرحلات حول العالم؟ وأي خبرة لا يزال القراء يرون أن بعض المؤلفين قادرون على جلبها؟، ما الذي يمكن أن يطرحه صحفيو السفر على طاولاتهم في عالم يمكن لأي فرد أن ينقل ما يشاء من معارف موثقة؟ أسئلة ليست بجديدة، فمنذ بداية الألفية لا تزال المراكز المتخصصة والأكاديمية تناقش جنساً أدبياً يرى بعضهم أن التكنولوجيا تهدده، الأمر الذي دفع مهرجان الكتاب والقراء أوبود في عام 2013 بمدينة بالي بإندونيسيا إلى طرحه القضية كموضوع رئيسي للمهرجان، ثم في عام 2016 نشرت المحاضرة في قسم السياحة بجامعة موناش الأسترالية مادلين بلير، كتابها «كتّاب أدب الرحلات في العصر الرقمي»، كما خصصت جامعة كمبريدج في موسوعتها «تاريخ كامبريدج لأدب الرحلات» 2013، مبحثاً مستقلاً عن مستقبل تقنيات هذا اللون في ظل التطور التكنولوجي الهائل وانتشار مواقع السفر وتقييم الرحلات.

  • لا جدوى

على صعيد آخر، يبدو أن الشعور باليأس قائم لدى بعضهم بشأن تطور أدب الرحلات في المشهد الأدبي، منهم الكاتب بصحيفة التايمز بن ماكنتاير، والذي يعتقد في «لا جدوى الكتابة عن السفر» مع قيام مليارات الأشخاص بنشر صور رحلاتهم الرخيصة والمبهجة على وسائل التواصل الاجتماعي. وكما يشير ماكنتاير، فإن تغطية الإنترنت في كل مكان تقريباً، وحلّ نجوم إنستغرام الذين يستخدمون أجهزة iPhone والآلاف من المتابعين محل المراسلين الذين يرتدون سترات مجعدة ويحملون دفاتر التدوين. وتبث كاميرات الويب الحية لقطات لقمم الجبال والشواطئ والسهول الإفريقية. من يحتاج إلى كاتب سفر ليخبرك كيف تسير الأمور؟ هو السؤال القديم الجديد الذي يشغل بال ماكنتاير.

  • تعجرف ونعي

في المقابل، يرى الكاتب في مجلة «جرانتا» كولين ثوبرون، أن «موت أدب الرحلات» كان أمراً متوقعاً مثلما سبق أن قرر كتاب متنوعون مثل جوزيف كونراد وإيفلين وو، وكلود ليفي شتراوس منذ فترة طويلة، بانتهاء «عصر أدب الرحلة»، ناعين نوعاً أدبياً من أقدم الأشكال في الكتابة بقولهم «أصبح العالم مكتظاً بالسكان، ومألوفاً جداً من خلال سهولة الطيران الجوي وشاشة الكمبيوتر».

يذهب ثوبرون، الذي كتبَ على نحو أساسي عن آسيا الوسطى وروسيا والصين، إلى وجود افتراض بأن كتابة الرحلات هي «افتراض ما بعد الاستعمار»، أي أنها فكرة تختزل كل الاتصالات بين ثقافات «العالم الأول» و«العالم الثالث» إلى فعل اكتساب متعجرف. و«لم يتم ذكر السفر هنا كوسيلة للتفاهم أو التعليم الذاتي أو التعاطف. إن أي لقاء بين عوالم غير متكافئة يُنظر إليه من حيث الهيمنة، وهي الفكرة التي تهدد بتحويل أي اتصال بشري إلى جنون العظمة».

وسط كل هذه التهديدات والسياقات المتشائمة، يمكن القول بإمكانية استفادة أدب الرحلات من تقنيات التطور، شريطة أن يغير كاتب الرحلة تصوره عن دوره الرئيسي في النقل، هنا يقول مؤلف أدب الرحلات الإندونيسي الشهير أوجستينوس ويبوو «إذا أصرّ كاتب رحلات على أن يكون أول شخص يزور مكاناً ما، فلن يفلح، لا يوجد مكان بِكر لم يمسه بشر». ومع إدراك أن القرن الحالي، يمكن وصفه بعصر الانتقال من التدوين الاحترافي إلى التدوين كساحة مفتوحة ممكن دخولها لأي فرد.

ومع ذلك وعن مصير أدب الرحلات، يحاول أديب الرحلات المخضرم بول ثيرو، تحديد السبب الذي يجعل هذا النوع من الأدب لا يزال يتمتع بجاذبية بالنسبة له، «القراءة والقلق، وعدم الرضا في المنزل، والحزن في الداخل، وفكرة أن العالم الحقيقي موجود في مكان آخر، جعلتني مسافراً. لو كان الإنترنت هو كل ما يمكن أن يكون عليه، لبقينا جميعاً في المنزل وتمتعنا برؤية ثاقبة رائعة. ومع ذلك، مع وجود الكثير من المعلومات المتناقضة المتاحة، هناك سبب للسفر أكثر من أي وقت مضى: للنظر من كثب، والحفر بشكل أعمق، وتمييز الأصيل عن المزيف؛ للتحقق، والشم، واللمس، والتذوق، والسماع، وفي بعض الأحيان، والأهم من ذلك، المعاناة من آثار هذا الفضول».

رؤية ثيرو تقدم الأمل لهذا النوع. كما هو الحال مع ماكنتاير، الذي يعتقد أن «وهم المعرفة المطلقة» الذي يقدمه الإنترنت يجعل زيارة الأماكن النائية من العالم أكثر مكافأة من أي وقت مضى.

وفي الواقع، يتميز أسلوب كتابة السفر بالمرونة والتنوع اللانهائي. مثلما يتغير العالم نفسه، فإن أولويات وحساسيات أولئك الذين يكتبون ويسافرون إليه تتغير أيضاً. كما أن التركيز الأرستقراطي القديم على الجانب التاريخي والجمالي، مع افتراضه لثقافة مشتركة بين الكاتب والقارئ، قد خُفّف إلى كتابةٍ أكثر شخصية.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/3jbdmwbf

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"