«الاقتصاد الجديد» والفوائد

02:21 صباحا
قراءة 5 دقائق
د. لويس حبيقة

بسبب سياسة الفوائد المنخفضة لتشجيع الاستثمارات، تحولت ادخارات المواطنين من الاستثمار في السندات إلى شراء الأسهم للاستفادة من العائد المالي الكبير المنتظر
لا ننسى الاستثمارات الكبيرة في غير محلها في الحواسب حيث كان الخوف كبيراً مما يعرف بال Y2K أي عدم جاهزية هذه الآلات للانتقال الزمني بين قرن وآخر. أخيراً وليس آخراً، الركود الكبير بدأ من سنة 2007 الذي ما زلنا نعاني من نتائجه بدأ من أمريكا إلى اليونان ومختلف بقاع الأرض.
تتكرر الأزمات المالية والأسباب مختلفة. لا يمكن فصل القرارات السياسية عما يحصل في الاقتصاد، أهمها من ناحية التعيينات أي اختيار الشخص المناسب للمكان المناسب. «ألان جرينسبان» ترأس المصرف المركزي الأمريكي من 1987 حتى 2006 اعتبر خلالها أنه أفضل حاكم في العالم. كان يعتقد أنه كان وراء النمو الأمريكي المتواصل خلال عهده الطويل، حققه عبر الضخ النقدي والفوائد المنخفضة. كان وراء تسمية «الاقتصاد الجديد» أي الاقتصاد الذي لا يعرف الركود بسبب التكنولوجيا وحسن استعمالها في الإنتاج والاستهلاك. ارتكز «الاقتصاد الجديد» على الإنتاجية المرتفعة التي تعطي نمواً إيجابياً متواصلاً، وبالتالي لا خوف من السقوط والانحدار لأن العوامل الإيجابية في رأيه دائمة. لكن السقوط حصل والأسواق انحدرت مراراً ليس أقله في سنة 2000 مع سقوط بورصات التكنولوجيا التي أخفقت توقعات جرينسبان وأظهرت أخطاءه، لكنه على ما تشير الدراسات الحديثة لم يتعلم منها. فهل كان بريئاً أم هنالك مصالح حاول تحقيقها لحساب جهات معينة في السياسة أم الأعمال؟
فلنبدأ بتعديد الأزمات المهمة بدأ من سنة 1987 حيث سقطت الأسواق الأمريكية والدولية، فخسر المستثمرون ما جنوا من عرق الجبين. كانت هنالك أزمات شركات التوفير والإقراض S&L التي ضربت الاقتصاد الأمريكي في صميمه وأوقعت خسائر كبرى مالية فاضطرت الدولة إلى الإنقاذ من الموازنة. كان هنالك السقوط المدوي في آخر التسعينات لصندوق LTCM الذي أوقع خسائر كبرى عند المستثمرين وضرب الثقة في الأسواق المالية الدولية. لفت سقوط الصندوق كثيراً لأن في مجلس إدارته شخصين مهمين هما «مايرون شولز» و«روبرت مورتن» اللذين حازا على جائزة نوبل للاقتصاد لسنة 1997 مما يشير إلى أن مخاطر الأسواق تبقى أهم من فعالية وصدقية العلوم وكفاءة الباحثين. سقوط أسواق التكنولوجيا في سنة 2000 معروفة عالمياً وأثبتت أن الإنتاجية لم ترتفع بالشكل الذي اعتقده جرينسبان، وأن هنالك حسابات خاطئة سببت هذه الخسارات وربما غشت المستثمرين.
حصلت كل هذه الكوارث في عهد «جرينسبان» بسبب السياسات التي اعتمدت، أهمها الفوائد المنخفضة التي شجعت على التهور والمضاربات في الأسواق المالية كما لاحقاً في العقارات. المهم في هذه التجارب هو التعلم من أخطاء الماضي لعدم التكرار ولبناء المستقبل على قواعد أفضل وأسلم، لأن من يعمل يخطئ، وهذا معروف في كل المجتمعات. هل كانت أخطاء جرينسبان بريئة أم لتحقيق أهداف ما؟
وبسبب سياسة الفوائد المنخفضة لتشجيع الاستثمارات، تحولت ادخارات المواطنين من الاستثمار في السندات إلى شراء الأسهم للاستفادة من العائد المالي الكبير المنتظر. شجعت هذه السياسة المواطنين على الاستثمار في البورصات وبالتالي تكبير حجمها كما لم يحصل في السابق. كان يعتقد أن إنتاجية الاقتصاد الأمريكي مرتفعة جداً وهي لم تنعكس بعد على أسعار الأسهم، وبالتالي من يشتري أسهماً سيحقق أرباحاً كبيرة في المستقبل. ارتفاع أسعار الأسهم في رأيه كان نتيجة ارتفاع الإنتاجية وظهور الاقتصاد الجديد، ولا يمكن أن يشكل فقاعة هوائية قابلة للانفجار. كان يعتقد أن نسب التضخم المعلنة هي خاطئة وأعلى من الحقيقة بين نصف نقطة ونقطة ونصف. شكل هذا الجو العام تشجيعاً لا مثيل له على الاستثمار في الأسواق المالية بمختلف أشكالها وأدواتها.
ثالثاً: في هذا الوقت كانت الدراسات الاقتصادية أهمها من «روبرت جوردن» تشير إلى أن الإنتاجية لم ترتفع في 99% من الاقتصاد الأمريكي باستثناء قطاعات التكنولوجيا. هذا يعني أن المبادئ التي بنى عليها جرينسبان سياسة الفوائد المنخفضة لم تكن واقعية بل ربما خاطئة أو مبالغ بها في أفضل الأحوال. سقطت الأسواق في التسعينات، فماذا كان جواب المصرف المركزي؟ تخفيض الفوائد والتشجيع على المضاربات للاستفادة من الأسعار المنخفضة للأصول المالية. ارتفعت أسعار أسهم شركات التكنولوجيا والإنترنت، والانطباع العام الذي ساد في تلك الفترة هو لا وجود سقف لارتفاع أسعار الأسهم وبالتالي من يشتري ويضارب يربح. أسواق خطرة بكل ما في الكلمة من معنى ارتكزت دون أي شك على جشع المستثمرين وغياب التحاليل والإرشادات الموضوعية والعلمية في تلك الفترة.
رابعاً: كانت سنة 2000 كارثية للمواطنين الذين وظفوا ادخاراتهم في أسواق التكنولوجيا. انفجرت الأسواق، لكن المصرف المركزي لم يعدل سياسات الفوائد اعتقاداً بأن الإنتاجية الاقتصادية مرتفعة، وبالتالي لا بد للأسواق من أن ترتفع من جديد أي تصحح مسيرتها بنفسها. لكن المواطنين على ما يظهر لم يعودوا مقتنعين بالأسواق المالية، فحولوا أنظارهم نحو العقارات التي بدأت أسعارها ترتفع. ولدت أدوات مالية جديدة تسمح للمواطنين بالاستثمار في المنازل والشقق والأرض التي حققت ارتفاعاً في الأسعار وبالتالي أرباحاً لمن استثمر. بدأت الفقاعة في الظهور لكن هذه المرة ليس في البورصات وإنما في العقارات التي لا تقل خطورة وأهمية. التاريخ يعيد نفسه بالرغم من الأوجاع والخسائر التي وقعت والتي لا تعتبر قديمة بأي معيار زمني أو موضوعي. فعلاً الجشع كان أكبر من المنطق والعمى كان أقوى من العقل، فتجددت التجارب الموجعة على حساب المواطن.
ما هي أهم الدروس التي يمكن اقتباسها من التجارب السابقة على مدى 20 سنة من الممارسة العملية للسياسة النقدية؟ انخفاض الفوائد خفض سعر صرف الدولار، أي شجع الصادرات. في الوقت نفسه، أصبحت الواردات أغلى وبالتالي سببت تضخماً في الداخل. بما أن الميزان التجاري الأمريكي عاجز، كان ثقل الواردات أكبر وبالتالي سبب التضخم أضراراً كبرى في تنافسية الاقتصاد. انخفاض الفوائد حول الاستثمارات من الاقتصاد الحقيقي أي الصناعة والزراعة إلى الأسواق المالية أي البورصات. أحدثت السياسات خللاً في هيكلية الاقتصاد الأمريكي يشير إليها الرئيس ترامب من وقت لآخر ويدعو إلى بناء القطاع الصناعي من جديد. شجعت السياسة النقدية على المخاطرة وبالتالي لم يعد هنالك خوف عند المستثمر، هذا الخوف الضروري للتنبه إلى ما يفعل والقلق من إمكانية الخسارة الموجعة. عوض أن يدفع سقوط الأسواق إلى تخفيف المخاطر، سبب رفعها لأن الفوائد بقيت منخفضة وبالتالي الحافز بقي موجوداً مما ساهم في ارتفاع البورصات من جديد. سياسات نقدية متهورة حاول المصرف المركزي تغييرها خاصة مع «برنانكي» و«يلن». لكن الرئيس ترامب استبدل «يلن» لأن الإجراءات المتبعة في رأيه تقيد الاستثمارات والنمو. هنالك خوف كبير اليوم من أن تعود الأمور إلى سابق عهدها حالما يستلم «باول» في شباط 2018. نعيش فعلاً في ظروف استثنائية ومرحلية لا يظهر أنها ستأخذ في الاعتبار دروس الماضي وتكلفة التجارب السابقة.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"