عادي
صدر في الشارقة

«الحجر والظلال».. قبس من الدراما الشكسبيرية

16:51 مساء
قراءة 5 دقائق
برهان سونميز

الشارقة: علاء الدين محمود

تأخذ رواية «الحجر والظلال»، للكاتب التركي برهان سونميز، الصادرة في نسختها العربية عن دار روايات في طبعتها الأولى عام 2023، بترجمة: صفوان الشلبي، القارئ إلى فضاءات وعوالم غريبة، ربما هي غير مطروقة كثيراً، حيث الصمت الذي يعم، والليل المخيم رغم الأضواء، إنه عالم الموت وحياة المقابر، حيث تبدو المدافن، على الرغم من أنها تستوطن أمكنة بارزة في جغرافية المدن والقرى، معزولة، لا يريد أحد أن يذكرها لا بالخير، ولا بالشر، شيء مسكوت عنه، نغشاها لنودع عزيزاً فقط، أو لنقوم بواجب زيارته، لكن في غير ذلك يفضل البشر الصمت عن ذكرها، كأن هناك اتفاقاً على ذلك فهي تذكّرهم بالموت.

يسأل السرد هل لتلك المقابر سكان غير الموتى؟، الإجابة هي نعم، إنهم حراس المدافن، الذين يعيشون بين الحجر والظلال، في إشارة لشواهد القبور، والتخيلات الناتجة عن التصورات المسبقة عن الأموات في الأساطير التي سكنت عقول البشر، في كونهم يظهرون في بعض الأحيان في صورة ظلال، أو أشباح بعيدة، ربما حتى لا ينساهم أحد، أو لتأكيد أنهم كانوا في يوم من الأيام ملء السمع والبصر، فتلك الظلال المتخيلة هي أثر في حياة كانت.

  • شواهد

العمل يتحدث عن حكاية أفدو، بطل الرواية والشخصية الرئيسية فيها، وتصور يومياته كحارس للمقبرة، وصانع لشواهد القبور، وبطبيعة الحال فإن لديه حياة مختلفة، وطريقة عيش ليست ككل البشر من طول البقاء في ذلك الصمت، والمكان المعزول، حيث تنتابه الأفكار والتصورات الغريبة، وقد جاء في مقدمة دار النشر في التعريف بعوالم الرواية «يعتقد أفدو أن الأرواح تكلّمه، وأنه لذلك يستطيع صنع شاهد قبر مختلف لكل روح، ويعبّر عنها. إنه المعلّم الذي يسكن كوخاً جوار المقبرة، ويقصده الأغنياء لصنع شواهد خلّابة النقوش والتصميم لموتاهم. يعكف الآن على صنع شاهد لصديقه الذي يحمل سبعة أسماء لكثرة البلدان التي هرب إليها من الحروب. وفي سلامه مع الأموات، يوماً ما تهرع إلى كوخه فتاة هاربة، لم يكد يسألها عن الأمر ويخبئها حتى دخلت عليه الشرطة بحثاً عنها. ما الذي سوف يفعله أفدو بعد أن علم أن الفتاة التي يخبئها، هي ابنة أخت حبيبته، تلك الحبيبة التي اختفت بعد أن رسمت له طريق القتل، والموت، والسجن، والعيش بين الحجر والظلال».

  • استهلال

ومنذ البدء، فإن الكاتب يهيئ القارئ تماماً للرحلة التي يريد أن يصطحبه فيها عبر استهلال بديع عامر بالمفارقات، والصور، والمشاهد، والمفارقات التي لا تخلو من بعض السخرية والمرح، رغم قتامة الحكاية، حيث جاء في مقدمة الرواية: «فكّر أفدو ملياً بالشاهد الذي سينحته لقبر الميت ذي السبعة أسماء، الذي دفن صباح اليوم. سحب نفساً من سيجارته، ورشف رشفة من الشاي. رفع إصبعيه القابضتين على السيجارة كأنه يكلم شخصاً أمامه، وقال محدثاً نفسه إنه ينبغي أن يكون لون شاهد قبر هذا الرجل أسود، مع ثقب دائري في وسطه كي يرى الناظر من أحد طرفي الثقب الفضاء الواسع. رؤية الفضاء من خلال الثقب يسحر اللب ويدعو إلى التأمل. ذلك الميت كان من المحاربين القدماء أثناء عملية «درسيم» العسكرية، عُثر عليه جريحاً وفاقداً للوعي على ضفاف نهر الفرات. تبين فيما بعد أنه قد فقد ذاكرته. أدعى من وجده من العساكر أن اسمه حيدر، وقد جُرح خلال هجوم قامت به جماعة ظاظا. ادّعوا أنه أحد رفاقهم الجند وضموه إلى وحدتهم العسكرية، وأعطوه مستقبلاً جديداً».

  • صدى الماضي

كان لأفدو قبل حياته في المدافن، عيشة مختلفة، لكنها على كل حال ليست بعيدة من الموت، هي حياة القتل والسجون وعوالم الإجرام التي لا يهم إن كان قد انقاد إليها عن عمد، أو كان بريئاً رمت به الصدفة إلى تلك المجاهيل، فالنتيجة واحدة على كل حال، وذلك أحد جوانب قسوة الحياة، أن يتساوى المجرم الحقيقي، مع البريء، أو الذي قادته الصدف نحو طريق الإجرام، لكن أفدو في النهاية اختار أن يلجأ إلى منطقة وسط بين الموت والحياة بعيداً عن البشر، هي العيش في المدافن، يستمع إلى الصمت، ولا يبصر سوى الظلال، واختار أن يسير في درب الخطيئة بسبب الحب بعد أن تملكته الغواية والشغف بامرأة، كانت هي بالنسبة له كل شيء في حياته، ولكنه كان حباً شقياً، أدخله في متاهات لا تنتهي، جعله يخوض تجربة القتل، وإزهاق الأرواح ليقضي حقبة من حياته في السجن.

  • طيف الطفولة

وعلى الرغم من أن أفدو يعيش هنا في هذا المكان، لكن ذاكرته المتقدة تصنع له حيوات أخرى، فكثيراً ما كان يتراءى له طيف طفولته، وتلك لحظة يعمقها السرد، ويركز عليها بحيث تفيض بالجماليات، نقرأ: «نظر إلى الضباب الذي يلف المقبرة، وتساءل أي من الأصوات ستصدر من البعيد في هذه الليلة. في الليالي الضبابية، كان يسمع صوت طفولته أحياناً، وأنين الأموات في أحايين أخرى. وبينما كان يقرأ الرسالة، تراءى له طيف طفولته بقدمين حافيتين يراقبه من خلف الضباب. كان طيف طفولته يقف بصمود أشجار السرو. يتحرك بخفة، ويخطو، فيسمع صوت تهشم عيدان الشجر الجافة تحت قدميه. كل طقطقة كانت تُحيي فيه أصوات الطفولة، أصوات الضحك والغناء والصياح كانت ترتفع معاً، وتنشر جواً من المرح في المقبرة، غير آبهة بأنات الأموات. شعر أفدو بدنو تلك الأصوات ثانية، فغمرته السعادة، وانتصب في جلسته، وأصغى إلى الليل؛ ما دام يتذكر طفولته، فهو على الأقل يعلم اسمه، وذلك يكفي لمعرفته لنفسه».

  • شعر

على الرغم من أجواء الموت والمدافن، إلا أن الكاتب استطاع أن يمرر تلك الحمولة الكئيبة والثقيلة على القلوب بواسطة تقنيات، منها قوة الوصف، ودقته، ولغة شاعرية تفيض رقة وعذوبة، وتصنع الصور والمشاهد المختلفة والمتنوعة، بحيث يصبح القارئ مفتوناً بقوة التشبيهات، والاستعارات، والبلاغة الكامنة في الوصف، حيث يحتشد العمل بالمقاطع التي تبدو كأنها نصوصاً شعرية، وكذلك لجأ المؤلف إلى تداعي الذكريات، التي تحتل مكانة مميزة في السرد على طريقة الارتداد في الزمن «الفلاش باك»، بطريقة جميلة بارعة، وكأن هنالك موسيقى تصويرية تستبق انبعاث الذكريات التي تأتي نفسها في شكل ظلال قادمة من أزمنة سحيقة، كما أبدع المؤلف في صناعة الشخوص، خاصة بطل العمل، تلك الشخصية الثرية والمعقدة والمتنوعة الحيوات، كما تم توظيف الحوار بصورة تكشف عما يعتمل عميقاً في دواخل البشر، وكذلك اعتمد السرد على تعدد الحكايات، خاصة قصص الموتى، وحياتهم السابقة، وبصورة عامة، فإن الرواية تجمع في أساليبها وتقنياتها السردية بين تيارات أدبية عدة، واقعية في حين، ورومانسية في أخرى، وفي بعض الأوقات يشعر القارئ بأنه يتجول في فضاءات الواقعية السحرية، أو يعيش أجواء شكسبيرية.

*اقتباسات

  • «الأرواح التي تستيقظ على أمل كل صباح، تعتقد أن الشمس تشرق من أجلها».
  • «لا يستطيع المرء اختيار مكان ولادته، لكنه قد يستطيع اختيار مكان دفنه».
  • «الموت لغز وسيظل كذلك دائماً».
  • «لا شيء عصياً على الفهم خارج معرفة الإنسان أكثر من قلبه».
  • «من كثر ما استخدمت من أسماء صرت بلا اسم».
  • «لا يغرنّك بريق عمري، فالعمر كله كيوم واحد».
  • «المدينة التي نامت على بياض الضباب، ستصحو غداً على بياض الثلج».
  • «إذا حالف الحظ المشرّدين، سيعثر على جثثهم المتجمدة ويدفنون في مقابر مجهولي الهوية».
  • «يحتاج فهم الحب إلى الشعور به أولاً».
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/mr3py6xp

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"