هل تشكل ألمانيا النموذج الأفضل؟

03:31 صباحا
قراءة 5 دقائق
د . لويس حبيقة
عندما نعالج أو نقيم الاقتصاد الألماني، نفكر تلقائياً بالصناعة والتطور المدهش الذي حققته في النوعية والتنافسية والإنتاجية كما في الأسعار . نجحت ألمانيا صناعياً وأصبح اقتصادها منذ عقود ركيزة النمو الأوروبي، أي قبل وبعد انشاء الوحدة النقدية . في نفس الوقت أهملت بعض الدول الأوروبية الصناعة، خاصة صناعة الداخل، فاستثمروا في الخارج بسبب التكلفة والمناخ الاستثماري، خاصة الضرائبي كما بسبب اليد العاملة المتوافرة نوعياً وثمناً . بين سنتي 1950 و،2000 ارتفع حجم التبادل التجاري الدولي 6 مرات للسلع الزراعية، 9 مرات للمواد الأولية و40 مرة للسلع الصناعية . لا يمكن لأي مجتمع أن يتطور وينمو إذا أهمل صناعته . الموضوع مرتبط بالمصلحة أولاً وبالعاطفة ثانياً . عالمياً هنالك 40% من اليد العاملة تعمل بشكل مباشر أو غير مباشر بالصناعة، أي بالخدمات المرتبطة بها . أحياناً، من الصعب فصل الشركة الصناعية عن شركة الخدمات لأنهما متواصلتان في العمل والخدمة . شركة اتصالات مثلاً، هي شركة خدمات لكنها تعتمد خاصة على إنتاج صناعي متخصص ومناسب . شركة كهرباء هي شركة خدمات لكنها ترتكز في نفس الوقت على صناعة متخصصة في الإنتاج والتوزيع الكهربائيين . هنالك شركات صناعية كبيرة تقدم خدمات مرتبطة بعملها من نواحي الصيانة وجميع خدمات ما بعد البيع .
لماذا أهملت الصناعة في الأكثرية الساحقة من دول العالم؟
أولاً: تغير شكل ومحتوى العلاقات الاجتماعية أي أصبح التركيز على النجاح الشخصي وليس الجماعي هو هدف الحياة المهنية والعملية . الاهتمام بالشخص وليس بالفريق أصبح ميزة المجتمعات في كل القطاعات . يطغى منذ عقود هدف الربح السريع الذي تؤمنه التجارة والذي يضر بالصناعة التي تتطلب نفساً طويلاً وعميقاً وصبراً مميزاً . لا يمكن للصناعة أن تنجح مع هذه العقلية الفردية وبالتالي فالصناعة تضررت من تطورات العقلية السائدة منذ القرن الماضي .
ثانياً: هنالك من يوازي بين الصناعة ونوعية العمل فيها والذي يتطلب جهداً جسدياً وتضحيات في المكان والزمان وربما خطراً جسدياً وبالتالي تتوجه الاقتصادات نحو الشركات "الأنظف" أي إلى الخدمات المقدمة في الغرف والشركات المفروشة بأحدث السلع . لا ينسى المجتمع الدولي الاضرابات المرتبطة بالصناعة عند الإقفال وبسبب الحقوق والأجور، التي تأخذ أحياناً أشكالاً عنفية وبالتالي تترك آثاراً سلبية في عقول الناس . كان العمل في الصناعة يشكل حقيقة حلماً لشباب الأمس ولم يعد كذلك .
بالرغم من هذا الواقع الأليم بالنسبة إلى الصناعة، حافظت ألمانيا على تفوقها في القطاع لأسباب متعددة . فهم الألمان منذ عقود شعباً وقيادات أن البحبوحة المستمرة لن تتحقق من دون قاعدة صناعية داخلية قوية وكبيرة وحديثة . كان النموذج الألماني مختلفاً كلياً عن الفرنسي والأمريكي ومتقارب جداً من الياباني . استثمر الفرنسيون كما الأمريكيون في صناعة تنتج في الخارج، وبالتالي لم يستفد منها اقتصادهم كما يجب . كانت الاستراتيجية الألمانية كما اليابانية مختلفة جداً إذ استثمرت في داخل الاقتصاد وبالتالي استفادت منه بشكل كبير . لا يمكن تحقيق قاعدة صناعية قوية عندما تصبح تكلفة الإنتاج هي العامل الأساسي والركيزة الأولى للإنتاج . استثمرت ألمانيا كما اليابان في الإبداع والتجديد والابتكار الداخلي الصناعي أكثر بكثير من غيرها وطورت بالتالي قاعدة صناعية قوية . كيف انعكس هذا الواقع على الاقتصاد؟ تحقق اليابان كما ألمانيا فائضاً كبيراً في الميزان التجاري والحساب الجاري نتيجة النجاح التصديري المتواصل منذ عقود . في أرقام سنة ،2012 حققت ألمانيا الفائض الأعلى في العالم في ميزان الحساب الجاري (255383 مليون دولار) وأتت اليابان في المركز ال 11 (60859 مليون دولار) بينما كان العجز الأمريكي الأعلى (440423 مليون) والفرنسي في المرتبة السادسة (57246 مليون) وهذه فوارق مهمة جداً للحاضر والمستقبل .
اهتمت الصين أكثر بالنمو من التنمية . نجحت الصين في تحقيق نمو كبير مرتكز على التكلفة المنخفضة والاستثمارات الخارجية، خاصة الأمريكية . هدفت السياسة الفرنسية ليس إلى تحقيق صناعة ناجحة وإنما إلى تحقيق صناعات معينة ناجحة أي "أبطالاً" يمثلون الهوية الفرنسية في التقنيات والنوعية . بينما كان حجم أعمال الاستثمارات الصناعية الفرنسية في الاقتصادات الناشئة تشكل 18% من المجموع في سنة ،2002 أصبح اليوم في حدود الثلث . في سنة ،2002 بلغ حجم إنتاج السيارات الفرنسية في الداخل 3 .3 مليون سيارة مقابل 8 .4 مليون في ألمانيا . في سنة ،2008 بلغ الإنتاج الفرنسي الداخلي 1 .2 مليون سيارة مقابل 4 .5 مليون للألمان . في سنة ،2010 صدرت فرنسا سيارات بقيمة 15 مليار يورو واستوردت بقيمة 22 مليار يورو بما فيها سيارات فرنسية مصنوعة في الخارج . العجز التجاري الفرنسي كبير وأسبابه واضحة .
لماذا اختلفت السياسة الأمريكية والفرنسية الصناعية عن السياسة الألمانية اليابانية؟
أولاً: هنالك تركيز أمريكي فرنسي على السعر أكثر منه في الدولتين الأخريين . لذا موضوع التكلفة مهم لهما أكثر من المنافستين الأخريين .
ثانياً: ملكية الشركات الأمريكية والفرنسية تختلف كثيراً عن الشركات الألمانية واليابانية . هنالك حصة كبيرة للأجانب فيما يخص المجموعة الأولى، وبالتالي تفضيل أو عدم ممانعة للاستثمار في الخارج . هدف الربحية يصبح أكبر بكثير من الهوية الوطنية، وهذا ما عانت وتعاني منه فرنسا وأمريكا كثيراً . كما أن ربط مصالح المالكين بالإداريين يدفع الأخيرين إلى محاولة تحصيل أعلى الأرباح للحصول على المنافع المالية المرتفعة والمرتبطة بالربح وليس بالجغرافيا .
ثالثاً: لم يعد للشركات الكبيرة هوية وطنية وبالتالي تختلف الرغبة في الاستثمار الخارجي من واحدة إلى أخرى . كما هنالك أسباب ضرائبية تشجع الشركات على توزيع وتنويع استثماراتها لدفع أقل قدر ممكن من الضرائب . هذا ما يحاول القانون الأمريكي الجديد "فاتكا" معالجته عبر توسيع القاعدة الضرائبية والتوجه نحو المخالفين أو المهربين أينما كانوا لتحصيل الضرائب .
رابعاً: موضوع تمويل الاستثمارات من السوق أصبح في غاية الأهمية في غياب الأموال العامة الكافية بسبب سياسات التقشف الناتجة عن العجز المالي المتفاقم دولياً . أصبح التمويل أهم من نوعية الاستثمار نفسه . هنا لا بد من الاعتراف بأن المال سيطر على الصناعة، وبالتالي تغيرت أهداف الاستثمارات كثيراً في العقود الماضية . هذا ما يحصل دائماً عندما تطغى عقلية الربح على نوعية الإنتاج . لم تعد الصناعة جزءاً أساسياً من الهوية الوطنية ومن قواعد الاقتصاد الداخلي ومناعته في وجه المخاطر الخارجية .
خامساً: هنالك نظرة سلبية إلى العمل والعمال . عندما يكون هدف الصناعة الأول هو تحقيق الربح، يصبح وضع العامل أسوأ أي تكون مصالحه في الدرجة الثانية . عندما ينظر إلى العامل فقط كتكلفة، يصبح تخفيض الرقم هو الهدف . يجب إعادة الاعتبار إلى العمل والعمال والارتكاز على النوعية التي تعطي ثماراً أكيدة على المدى البعيد . المطلوب تطوير معرفة العامل وزيادة إنتاجيته، وهذا ما فهمه الألمان أكثر من غيرهم بكثير .
هل هذا يعني أن النموذج الألماني هو المثالي؟ ما هي الشوائب؟ يقول الاقتصادي "غابرييل كولليتيس" في كتابه عن الصناعة أن النموذج الألماني يعاني . حصة الأجور من الأرباح تدنت بسبب ارتفاع الإنتاجية واستبدال العامل بالماكينة الصناعية . 22% من العمال الألمان يحققون 9 يورو في الساعة، بينما كان 16% منهم في هذه الخانة المتواضعة أي أن الوضع العمالي يتراجع . تعاني ألمانيا أيضاً هشاشة الوضع المصرفي كما من الانخفاض السكاني ومن ارتفاع فجوة الدخل بين الأغنياء والفقراء . ألمانيا ناجحة لكنها ليست نموذجية .
التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات

عن الكاتب

​خبير اقتصادي (لبنان)

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"