الفردية أساس الإبداع

00:14 صباحا
قراءة دقيقتين

يحيى زكي

تؤكد العديد من الظواهر في عصر التكنولوجيا فائقة الحداثة أن الإبداع في مختلف المجالات إلى تراجع ملحوظ. بإمكاننا أن نرصد ذلك في الفنون، والآداب، والفكر، كما في حقول أخرى عدّة. لم يعد هناك ذلك العمل الذي يتوقف أمامه المتلقي، أو المشاهد، أو القارئ، أو المستمع، لفترة طويلة، يتأمله، ويعيد التعرّض له، ويخرج منه بحزمة من الأفكار، أو ينفعل به، أو يرشحه لغيره، أو يحفزه على الحوار والنقاش. والمفارقة هنا أن الإبداع تاريخياً، كان يزدهر مع صعود النزعة الفردية، ويبدو عصرنا الآن «ظاهرياً» المرحلة في المثالية لنمو هذه النزعة.

هل أدت التكنولوجيا الحديثة إلى صعود أحساس كل فرد بذاته، وشعوره بكيانه، وقيمته، ومعرفته بحقوقه، وتمتعه بحرياته، أم أن العكس تماماً هو ما حدث؟

للوهلة الأولى فإن امتلاك كل فرد لهاتف خاص، يمارس فيه فرديته منعزلاً عن العالم لعدة ساعات يومياً، فعل يرسخ مبدأ الفردية، ولكن الواقع أنها فردية مزيفة، فكل ما يفعله الفرد على الهاتف يفعله الآخرون في الوقت نفسه، نفس القوانين، والتطبيقات، وأدوات الاتصال، والدردشة، وقواعد الكتابة واحدة لا تتغير، أي أن هناك الملايين من النسخ المكررة، حتى الأيقونات التي تعبر عن المشاعر واحدة في جميع الأجهزة، هي إذن، فردية مزيفة، وأفعال وأن كنا نقوم بها ونحن في عزلة عن العالم إلا أننا لم نخرج يوماً عن مسار القطيع، أو المجموع، وغالباً مع هذه القولبة فإنه نادراً ما تعثر عمّن يفكر بطريقة مختلفة، أو حتى يعبّر عن شعوره بأسلوب مغاير، وهذا التشابه في التفكير والتطابق في الشعور ضد فكرة الإبداع على طول الخط.

تعبّر مواقع التواصل واستخدامنا للهاتف وبقية سلسلة التكنولوجيا الحديثة، عن الشق التقني المصاحب للعولمة، والتي يعتقد الكثيرون أنها بشّرت وروّجت للنزعة الفردية، ولكن ذلك لم يكن صحيحاً بدوره، لقد أنهت العولمة بما فرضته من أسواق ذلك التنوع الثقافي الذي كنا نشاهده من أسواق في الماضي، ونمّطت طرائق تناول الطعام، وارتداء الأزياء، إلى حد كبير، أي أنها خلقت سلوكات مستنسخة لقطاعات واسعة من البشر، أما المحمول السياسي للعولمة، ونعني به النيوليبرالية، فترسيخها للفردية مسألة فيها نظر، ومحل جدل كبير.

إذن، نحن أمام منظومة عصرية تتكون من ثلاثة أضلاع: سياسي واقتصادي وتقني، وفي كل أبعادها تكاد تختفي الفردية، وإن كان الخطاب المصاحب لهذه المنظومة يدّعي العكس، فالفردية في فهمها الحقيقي ليس أن أسلك وفق ما أهوى أو اعتقد ما أشاء، وحسب، ولكن المهم أن أكون عضواً فاعلاً في الإنسانية، وأقدم إضافة ما إليها، وهذا ما يتراجع كل يوم مع تضخم تلك المنظومة، التي لم تنجح إلا في خلق بشر يستنسخون بعضهم بعضاً على مدار الساعة.

أن يبدع الإنسان، أو أن يبتكر هو التجلي الأهم لفرديته، أو أحساسه بآدميته، وهي عملية طويلة وشديدة التعقيد، ولكنها كانت تميّزنا دوماً عن غيرنا من الكائنات، ومن دونها ربما لا نستحق أن نكون بشراً.

التقييمات
قم بإنشاء حسابك لتتمكن من تقييم المقالات
https://tinyurl.com/45hk99h3

عن الكاتب

المزيد من الآراء

لاستلام اشعارات وعروض من صحيفة "الخليج"